بعث الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم معلماً ومربياً، ومزكياً ومؤدباً،، قال الله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}(البقرة:151)، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّـمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْـحِكْمَةَ}(الجمعة: 2)، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لم يبعثني معنِّتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً) رواه مسلم. وهذه وقفة يسيرة مع هديه صلى الله عليه وسلم في تعليمه وتربيته لأصحابه على طريقة وكيفية السؤال والأدب في ذلك.
السؤال بقصد العلم والعمل:
عَلِمَ الصحابة رضوان الله عليهم كراهة النبي صلى الله عليه وسلم للمسائل والأسئلة التي لا يُحتاج إليها، ولا فائدة من طرحها، لما سمعوا من تحذيره صلى الله عليه وسلم من ذلك، فعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: (كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها) رواه مسلم. قال النووي: "المراد: كراهة المسائل التي لا يُحتاج إليها، لا سيما ما كان فيه هتك ستر مسلم، أو إشاعة فاحشة، أو شناعة على مسلم أو مسلمة. قال العلماء: أما إذا كانت المسائل مما يُحتاج إليه في أمور الدين، وقد وقع، فلا كراهة فيها"، ومن ثم كانت أسئلة الصحابة رضوان الله عليهم للنبي صلى الله عليه وسلم بقصد ونية العلم والعمل، لا العبث واللعب، والنقاش والجدال.
عدم السؤال عن المتشابه:
وذلك امتثالاً لتحذير النبي صلى الله عليه وسلم من يفعل ذلك، وتشديده ونهيه عن مجالستهم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الألْبَابِ}(آل عمران: 7)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم) رواه البخاري.
ومعنى الآية كما قال السعدي في تفسيره: "أن الله أنزل القرآن محتوياً على المُحْكَم الواضح المعنى، وعلى المتشابه الذي يحتمل معانٍ متعددة لا يتعين أحدهما حتى يضم إلى المحكم، فأمّا أهل الزيغ والضلال فإنهم يعمدون إلى المتشابه فيستدلون به على مقالاتهم الباطلة، وأما أهل العلم الراسخ واليقين الثابت، فإنهم لا يأخذون إلَّا بالآيات المحكمة، ويردون المتشابه إلى المحكم، ويفسرونه به لأنهم يعلمون أن القرآن كله من عند الله، فإذا خفيت عليهم آية متشابهة فسروها بآية أخرى محكمة".
لقد بالغ النبي صلى الله عليه وسلم في التحذير والتنفير من السؤال عن المتشابه، بل وأمر باجتناب من يفعله ـ مثل الخوارج والمعتزلة وغيرهم من أهل البدع والأهواء قديماً وحديثاً ـ فقال صلى الله عليه وسلم: (فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم) رواه البخاري.
ترك السؤال عما سكت عنه الشرع:
حذر النبي صلى الله عليه وسلم من السؤال عما سكت عليه الشرع، حتى لا يؤدي السؤال عن ذلك إلى إيجاب ما لا يوجبه، أو تحريم ما لم يحرمه، فيكون السؤال سبباً إلى التضييق على المسلمين، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ}(المائدة: 102:101)، وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أعظم المسلمين جُرْماً من سأل عن شيء لم يحرم فحُرِّم من أجل مسألته) رواه البخاري. قال الطيبي: "هذا في حق من سأل عبثاً وتكلفاً فيما لا حاجة به إليه كمسألة بني إسرائيل في شأن البقرة".
كثرة السؤال فيما لا يعني:
روى البخاري عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال). هذا الحديث من الآداب النبوية العظيمة، إذا امتثله المسلم حفظ به نفسه، ووقاها من شر ونوازع التفريط والضياع، وقد ذكر العلماء في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: (وكثرة السؤال) وجُوهاً عديدة، كلها تدخل في إطلاق هذا اللفظ، ومنها: بذل ماء الوجه في سؤال الناس أموالهم، وسؤال العلماء عن المسائل الغريبة التي لا تنفع، وربما تفتح أبواب النزاع والخلاف، أو السؤال عن المسائل التي يندر وقوعها أو يستحيل، أو كثرة سؤال إنسان بعينه عن تفاصيل وخصوصيات حياته التي يكره أن يطلع الناس عليها، فيقع في الضيق والحرج بسبب سؤاله عن ذلك، أو سؤال السائل عما لا يعنيه، ولا شأن له به.. فهذه أمور كلها مذمومة، والأوْلى في تفسير الحديث حمله على إطلاقه، واعتبار أن كل ما دل الشرع والأدب على كراهة السؤال عنه وكراهة طلبه فهو داخل فيه.
قال ابن حجر في فتح الباري: "قوله : (وكثرة السؤال) هل هو سؤال المال، أو السؤال عن المشكلات والمعضلات، أو أعم من ذلك؟ الأولى حمله على العموم .. وثبت عن جمع من السلف كراهة تكلف المسائل التي يستحيل وقوعها عادة أو يندر جداً، وإنما كرهوا ذلك لما فيه من التنطع والقول بالظن، إذ لا يخلو صاحبه من الخطأ". وقال القرطبي:"والوجه: حمل الحديث على عمومه، فيتناول جميع تلك الوجوه كلها". وقال النووي: "وأما (كثرة السؤال) فقيل : المراد به القطع في المسائل، والإكثار من السؤال عما لم يقع ولا تدعو إليه حاجة، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن ذلك، وكان السلف يكرهون ذلك ويرونه من التكلف المنهي عنه".
فائدة:
كثرة السؤال إذا كان على وجه التعنت والتكلف مذموم ومنهي عنه، أما إذا كان على وجه التعلم والتعليم لما يحتاج إليه من أمر الدّين أو الدنيا فذلك جائز بل مأمور به لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(النحل:43)، فمع نهي النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن كثرة السؤال فيما لا يعنيهم، فإنه صلى الله عليه وسلم أمرهم في مواضع أخرى بالسؤال وأثنى على ذلك، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العِيّ السؤال) رواه أبو داود وحسنه الألباني، وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه: (لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أول منك، لما رأيتُ من حرصك على الحديث) رواه البخاري.
قال المازري: "أما إذا كانت المسائل مضطراً إليها فلا بأس بالسؤال عنها، وقد كان يُسْأَل صلى الله عليه وسلم عنِ الأحكام فلا يَكْرَه". وقال ابن عثيمين: "كثرة السؤال عن العلم فهذا إنما يكره إذا كان الإنسان لا يريد إلا إعْنات المسؤول، والإشقاق عليه، وإدخال السآمة والملل عليه، أما إذا كان يريد العلم فإنه لا يُنهى عن ذلك، ولا يُكره ذلك، وقد كان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كثير السؤال، فقد قيل له: بم أدركتَ العلم؟ قال: أدركتُ العلم بلسان سؤول، وقلب عقول، وبدن غير ملول .. لكن إذا كان قصد السائل الإشقاق على المسؤول والإعنات عليه، وإلحاق السآمة به، أو تلقط زلاته لعله يزل فيكون في ذلك قدح فيه، فإن هذا المكروه".
مراجعة المُعَلّم فيما أُشْكِلَ وصعُبَ:
مع كمال حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم وهيبتهم وشدة تعظيمهم له، لم يكونوا يترددون في مراجعته لاستيضاح ما أُشْكِلَ عليهم، حتى يسهل فهم معانيه والعمل بمقتضاها، ولعلمهم أن هذه المراجعة وهذا الاستيضاح لم يكن يُغْضِب النبي صلى الله عليه وسلم بل يرحب به، ومن ذلك حديث عبد الله بن أنيس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الله العباد - أو قال: الناس - عراة غُرْلاً (غير مختونين) بُهْماً، قال: قلنا: ما بُهْماً؟ قال: ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار، وعنده مظلمة، حتى أُقِصَّه (أمكنه من أخذ القصاص ممن ظلمه) منه، حتى اللطمة، قال: قلنا: كيف وإنما نأتي الله غرلا بهما؟ قال: بالحسنات والسيئات) رواه الحاكم وصححه الألباني.
وعن حفصة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأرجو ألا يدخل النار أحد إن شاء الله ممن شهد بدراً والحديبية، قالت: قلتُ يا رسول الله: أليس قد قال الله: {وَإِن مِنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا}(مريم: 71)، قال: ألم تسمعيه يقول: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}(مريم: 72)) رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
المتأمل في السيرة النبوية يرى كثرة الوسائل والأساليب التي انتهجها النبي صلى الله عليه وسلم في تعليمه وتربيته لأصحابه والأمة من بعدهم، ومن ذلك تعليمه لأصحابه طريقة السؤال والأدب في اختياره وطريقة طرحه، ولهذا قيل: "أدب السائل أنفع من الوسائل، وقال ابن حجر: "العلم سؤال وجواب، ومن ثم قيل: حسن السؤال نصف العلم".