المعروف من كلام العرب أنهم يميلون إلى التفنن في كلامهم، فيأتون به على وجوه شتى، وأساليب عدة، فيقدمون في كلامهم ويؤخرون، ويُثبون ويحذفون، ويختصرون ويستطردون، ويصرحون ويكنون، إلى غير ذلك من الوجوه البيانية والأساليب البلاغية، يفعلون ذلك لأغراض بينها أهل اللغة وفرسان البيان.
ومن الأساليب المعهودة في كلامهم، أنهم يذكرون المـُسَبَّب، دون ذكر للسبب؛ وذلك بغرض الإيجاز في الكلام والمبالغة فيه، ويعبرون عن هذا الأسلوب بقولهم: إقامة المـُسَبَّب مقام السبب. قال ابن جني في "الخصائص" مبيناً وزن هذا الأسلوب في كلام العرب: "هذا موضع من العربية شريف لطيف، وواسع لمتأمله كثير. وكان أبو علي -يقصد الفارسي أستاذه- رحمه الله يستحسنه، ويُعنى به".
ومن شواهدهم الشعرية على هذا الأسلوب قول إياس بن قبيصة:
وأقبلتُ والخطي يخطر بيننا لأَعْلَم مَن جبانُها من شجاعِها
أي: ليظهر من هو شجاع، ومن هو جبان، فأعلم ذلك.
ومن شواهدهم أيضاً قول رؤبة:
يا رب إن أخطأت أو نسيت فأنت لا تنسى ولا تموت
وذلك أن حقيقة الشرط وجوابه، أن يكون الجواب مُسَبَّباً عن الشرط، كقولك: إن زرتني أكرمتك، فالكرامة مُسَبَّبَة عن الزيارة. وليس كون الله سبحانه غير ناسٍ ولا مخطئاً أمراً مُسَبَّباً عن خطأ رؤبة، ولا عن إصابته، إنما تلك صفة له سبحانه من صفاته، لكن المعنى: إن أخطأتُ أو نسيتُ، فاعف عنى؛ لنقصي وفضلك. فاكتفى بذكر الكمال والفضل -وهو السبب- من العفو، وهو المـُسَبَّب.
والقرآن كما لا يخفى نزل بلغة العرب، وجاء على وفق أسلوبهم في البيان، ومن ثم وجدنا هذا الأسلوب قد ورد في القرآن الكريم في مواضع كثيرة، ونبيه عليه المفسرون، كالزمخشري، والقرطبي، وأبي حيان، وغيرهم، وأفرد له السبكي في "برهانه" باباً برأسه، وتبعه في ذلك السيوطي في "إتقانه".
والملاحظ من كلام أهل العلم في هذا الباب، سواء أهل اللغة أو أهل التفسير، أنهم يذكرون أمثلة أقيم فيها المـُسَبَّب مقام السبب، ثم يُتبعون ذلك بذكر أمثلة أقيم فيها السبب مقام المـُسَبَّب، ونحن نقتفي أثرهم في ذلك، فنذكر بداية أمثلة أقيم فيها المـُسَبَّب مقام السبب، ثم نثني بذكر أمثلة أقيم فيها السبب مقام المـُسَبَّب.
أمثلة قرآنية أقيم فيها المـُسَبَّب مقام السبب
- قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} (المائدة:6) أي: إذا أردتم القيام إلى الصلاة، قال أبو حيان: "لما كانت محاولة الصلاة في الأغلب إنما هي بقيام، جاءت العبارة: {إذا قمتم} أي: إذا أردتم القيام إلى فعل الصلاة. وعبر عن إرادة القيام بالقيام، إذ القيام متسبب عن الإرادة". وهذه الآية هي المثال القرآني الأشهر في بيان هذا الأسلوب.
- قوله عز وجل: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله} (النحل:68) أي: إذا أردت قراءة القرآن، فاكتفى بالمـُسَبَّب الذي هو القراءة من السبب، الذي هو الإرادة. أو يقال: لما كان الفعل متسبَّباً عن القدرة والإرادة، أقيم المـُسَبَّب مقام السبب.
- قوله تبارك وتعالى: {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا} (الأعراف:26) فهو سبحانه أنزل مطراً، يتسبب عنه الرزق واللباس، فأقام المـُسبَّب مقام السبب.
- قوله سبحانه: {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة} (الأعراف:27) لم يقل سبحانه: "كما فتن أبويكم"؛ لأن (الخروج) من الجنة هو المـُسَبَّب الناشئ عن الفتنة، فأقام المـُسَبَّب مقام السبب، والمعنى: لا تفتتنوا بفتنة الشيطان، فإذا عُدِمَ السبب، فيُعدم المـُسَبَّب، فالنهي في الحقيقة لبني آدم، والمقصود عدم وقوع هذا الفعل منهم.
- قوله تعالى: {ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار} (غافر:41) وهم لم يدعوه إلى النار، وإنما دعوه إلى الكفر؛ بدليل قوله بعد: {تدعونني لأكفر بالله} (غافر:42) لكن لما كانت النار مُسَبَّبَة عنه أطلقها عليه.
- قوله سبحانه: {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا} (النور:33) المراد الشيء الذي ينكح به من مهر ونفقة وما لا بد للمتزوج منه.
- قوله عز وجل: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} (البقرة:188) أي: لا تأكلوها بالسبب الباطل، الذي هو القمار، ونحوه من الكسب الحرام.
- قوله تبارك وتعالى: {وليجدوا فيكم غلظة} (التوبة:123) أي: وأغلظوا عليهم، ليجدوا ذلك؛ قال الزركشي: "وإنما عدل إلى الأمر بـ (الوجدان) تنبيها على أنه المقصود لذاته، وأما الإغلاظ فلم يقصد لذاته، بل لتجدوه".
- قوله سبحانه: {أولئك يدعون إلى النار} (البقرة:221) أي: يدعون إلى الكفر الذي هو سبب دخول نار جهنم.
- قوله تعالى: {كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين} (الأنبياء:104) يعني: إنا كنا قادرين على الإعادة، قال الزمخشري: "عبر عن إرادة الفعل بالفعل؛ وذلك لأن الفعل مُسَبَّب عن القدرة والإرادة، فأُقيم المـُسَبَّب مقام السبب للملابسة بينهما، ولإيجاز الكلام".
- قوله عز وجل: {تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا} (التوبة:92) فأسند الفيض إلى الأعين، وإن كان حقيقة للدموع، والمعنى أن أعينهم تمتلئ من الدمع حتى تفيض؛ لأن الفيض أن يمتلئ الإناء، أو غيره، حتى يطلع ما فيه من جوانبه، فوضع الفيض الذي هو من الامتلاء موضع الامتلاء، وهو من إقامة المـُسَبَّب مقام السبب.
- قوله تبارك وتعالى على لسان النبي شعيب علسه السلام: {يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر} (العنكبوت:36) قال أبو حيان: "والأمر بـ (الرجاء)، أمر بفعل ما يترتب الرجاء عليه، فأقام المـُسَبَّب مقام السبب. والمعنى: وافعلوا ما ترجون به الثواب من الله".
- قوله تعالى: {فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا * ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا} (الجن:27-28) قال ابن عاشور: "ويتعلق {ليعلم} بقوله: {يسلك} أي: يفعل الله ذلك ليبلغ الغيب إلى الرسول كما أرسل إليه، لا يخالطه شيء مما يلبس عليه الوحي، فيعلم الله أن الرسل أبلغوا ما أوحي إليهم دون تغيير، فلما كان علم الله بتبليغ الرسول الوحي مُسَبَّباً عن تبليغ الوحي كما أنزل الله، جعل المـُسَبَّب علة، وأقيم مقام السبب؛ إيجازاً في الكلام؛ لأن علم الله بذلك لا يكون إلا على وَفْق ما وقع".
- قوله عز وجل: {وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا} (الإسراء:28) قال أبو السعود: "أي: إن اعتراك أمر اضطرك إلى أن تُعْرِض عن أولئك المستحقين {ابتغاء رحمة من ربك} أي: لفقد رزق من ربك؛ إقامة للمُسَبَّب مقام السبب؛ فإن الفقد سبب للابتغاء".
- قوله سبحانه: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم} (الزمر:23) اكتفى بـ (قشعريرة الجلود) عن ذكر خشية القلوب؛ لقيام المـُسَبَّب، الذي هو قشعريرة الجلود، مقام السبب الذي هو خشية القلوب من الله.
- قوله عز وجل: {فاتقوا الله لعلكم تشكرون} (عمران:123) قال العلماء: يجوز أن يكون: لعلكم تزدادون نعماً، فتشكرون عليها؛ إقامة للمُسَبَّب مقام السبب.
- قوله تبارك وتعالى: {إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم} (آل عمران:90) قال الزمخشري: "قوله {لن تقبل توبتهم} كناية عن عدم إيمانهم، مثل: فلان كثير رماد القِدْر، فهو من إقامة المـُسَبَّب مقام السبب، أي: يؤتون كفاراً، فيدخلون في جملة من لا تقبل توبته".
- قوله تعالى: {ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها} (الفتح:5) نقل الآلوسي عن بعض أهل العلم أن هذا كناية عن تصرفه وتدبيره سبحانه، "أي: دبر سبحانه ما دبر من تسليط المؤمنين؛ ليعرفوا نعمة الله تعالى في ذلك، ويشكروها، فيدخلهم الجنة، فالعلة في الحقيقة معرفة النعمة وشكرها، لكنها لما كانت سبباً لدخول الجنة، أقيم المـُسَبَّب مقام السبب".
- قوله عز وجل: {ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا} (يوسف:36) وإنما يعصر عنباً، يصير خمراً، فاكتفى بالمـُسَبَّب -الذي هو الخمر- من السبب، الذي هو العنب.
- قوله تبارك وتعالى: {فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه} (البقرة:60) أي: فضرب فانفجرت؛ فاكتفى بالمـُسَبَّب، الذي هو الانفجار، من السبب الذي هو الضرب.
- قوله عز وجل: {أفلا تبصرون * أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين} (الخرف:51-52) من المعاني التي قيلت في المراد من هذه الآية، أنها من باب اقامة المـُسَبَّب مقام السبب؛ فإن قوله: {أنا خير} معناه: تعلمون {أنا خير} والعلم بكونه خيراً مُسَبَّب للتبصر، فكأنه قال: {أفلا تبصرون} فتعلمون أني خير.
أمثلة قرآنية أُقيم فيها السبب مقام المـُسَبَّب
- قوله تعالى: {ما كانوا يستطيعون السمع} (هود:20) أي: القبول والعمل به؛ لأنه مُسَبَّب عن السمع.
- قوله سبحانه: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى:40) والجزاء لا يكون سيئة، لكن سمي الجزاء -الذي هو السبب- سيئة، فسمي الشيء باسم سببه.
- قوله عز وجل: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (البقرة:194) والقصاص لا يكون اعتداء؛ لأنه حق وجب، لكن سمي الجزاء -الذي هو السبب- اعتداء، فسمي الشيء باسم سببه.
- قوله سبحانه في شهادة المرأة: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} (البقرة:282) فجعل سبحانه المرأتين للتذكير، إذا وقع الضلال (الغفلة أو النسيان)، لا ليقع الضلال؛ فلما كان (الضلال) سبباً للتذكير أُقيم مقامه.
- قوله تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} (البقرة:143) فأطلق (الإيمان) على ما كان سبباً له، وهو الطاعة.
- قوله عز وجل: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} (البقرة:86) أي: أفتعملون ببعض التوراة، وهو فداء الأسارى، وتتركون العمل ببعض، وهو قتل إخوانهم وإخراجهم من ديارهم، فأقام السبب مقام المـُسَبَّب.
- قوله عز من قائل: {ومكروا ومكر الله} (آل عمران:54) قال السبكي: "تجوَّز بلفظ المكر عن عقوبته؛ لأنه سبب لها".
ويقال مثل ذلك في قوله سبحانه: {إنهم يكيدون كيدا * وأكيد كيدا} (الطارق:15-16). وقوله تعالى: {إنما نحن مستهزؤن * الله يستهزئ بهم} (البقرة:14-15). وقوله تبارك وتعالى: {يخادعون الله وهو خادعهم} (النساء:142). وقوله عز وجل: {فيسخرون منهم سخر الله منهم} (التوبة:79). فلا يكون منه سبحانه مكر، ولا هزء، ولا كيد، ولا خداع، ولا سخرية، إنما هو جزاء لمكرهم، واستهزائهم، وكيدهم، وخداعهم، وسخريتهم.