إذا أردنا أن نتكلم عن قصة نجاح سنغافورة فإننا لا نتكلم عن دولة عادية أخذت بأسباب النهضة والرقي، بل إنها دولة حفرت طريق التقدم بلا موارد تذكر، ولا مقومات ترصد سوى عزيمة أبنائها وحسن إدارتهم لبلادهم، وهي اليوم تتغنى بالمؤشرات الاقتصادية الباهرة بها قرابة خمسين عاما من الكفاح، وإن تركنا لغة الإنشاء وتركنا المجال للأرقام فسنجد أنه بلغت حصة الفرد السنغافوري من الناتج القومي 62.4 ألف دولار سنوياً، وهي بذلك تحتل المرتبة السابعة عالمياً على هذا الصعيد، متقدمة على كافة الدول الصناعية الكبرى في العالم.
لم تكن سنغافورة تمتلك مقومات الدولة ولا الأمة، فهي ليست سوى جزيرة صغيرة لا تزيد مساحتها على 618 كيلومتراً مربعاً. كانت تعيش على نشاط قاعدتين عسكريتين بريطانيتين، ويقطنها مهاجرون ينتمون لأعراق مختلفة.
(لي كوان يو) مؤسس سنغافورة الحديثة، وأول رئيس وزراء بعد الاستقلال، والمعروف باسم "الوزير المعلم" .. يقول في كتابه "قصة سنغافورة": "لو كنت وزملائي نعلم عندما أنشأنا حزب العمل الشعبي في العام 1954 حجم ونوعية المصاعب التي سنواجهها على طول الطريق الذي انتهجناه لما فكرنا بدخول معترك السياسة أصلاً، إذ لم يكن في أذهاننا آنذاك سوى فكرة واحدة: الخلاص من الاستعمار البريطاني. أما ما عدا ذلك فكنا نعتبره تفاصيل صغيرة ومشكلات تافهة يمكن معالجة كل منها في حينها، لكننا كنا مخطئين كثيراً، فنحن كنا في واقع الأمر نواجه مهمة ثقيلة وشاقة إلى أقصى الحدود، وهي تأسيس دولة وإيجاد أمة من لا شيء".
آنذاك كتب صحفي بريطاني في الصندي تايمز: "سينهار الاقتصاد السنغافوري إذا ما تم إغلاق القواعد البريطانية والتي تفوق تكلفتها مائة مليون جنيه إسترليني" .. يذكر أن وجود القوات البريطانية كان يوفر 30 ألف فرصة عمل أي ما يعادل 20% من الناتج القومي الإجمالي.
لكن القيادة السنغافورية اعتمدت مبدأ اختيار العنصر الأفضل لأية مهمة أو واجب، مهما كانت انتماءاته أو أصله .. كانت تهتم بالنتائج فقط. كانت تعلم تماماً أن فشلها سيعني حرباً أهلية واندثار حلم.
وقد كان من الطبيعي ألا تقتصر الخطط على جانب واحد من الاقتصاد، فتم تشجيع بناء المصانع الصغيرة، وخاصة مصانع تجميع المنتجات الأجنبية، على أمل أن يتم البدء بتصنيع بعض قطعها محلياً.
وقد عرفت التجربة الكثير من الفشل سواء لنقص الخبرة أو عدم الحصول على الاستشارات الصحيحة. وكلف ذلك الفشل غالياً، لكن البلاد استفادت من الدروس المكتسبة وعملت على عدم تكرار الخطأ – كما يقول (لي كوان يو).
ومع استكمال انسحاب القوات البريطانية كان من بين أهم إنجازات تلك الفترة إكمال منطقة (جورونج) الصناعية، وهي المنطقة التي شهدت نجاحاً ضئيلاً للغاية فيما يتعلق باجتذاب الاستثمارات الأجنبية حتى منتصف الستينيات، ثم أخذت الحياة تدب فيها بسرعة بعد ذلك.
يقول (نجيام تونج دو) عضو الفريق الاقتصادي المؤسس: "في عام 1965 أدركنا عدم إمكانية الاعتماد على أسواق جيراننا وقررنا أن نتحول إلى اقتصاد عالمي، فيجب أن نكون مستعدين للتنافس مع أي دولة في العالم ومن ثم قمنا بإلغاء جميع الرسوم على الواردات لتتدفق التجارة بشكل حر مما يمكن من استيراد المواد الخام بحرية وبما يمكننا من التصدير بحرية، وبذلك تحولت سنغافورة إلى أول اقتصاد عالمي، نحن براجماتيون بمعنى أننا نرحب بشركات متعددة الجنسيات، وفي تلك الأيام لم تكن حتى الدول الكبرى مثل الهند والصين وأندونيسيا ترحب بالاستثمارات الأجنبية فقد كانت توجهاتها قومية".
لقد عمل (نجيام تونج دو) في هيئة حكومية تدعى مجلس التنمية الاقتصاديEDB وكانت مهمة هذه الهيئة إقناع المستثمرين الأجانب بأن سنغافورة مكان جيد للاستثمار، وبرز وزير المالية السنغافوري الأول دكتور (كوكينج سوي) والذي عرف بمهندس الاقتصاد السنغافوري، فهو لم يأت فقط بسياسات أدت إلى النجاح الاقتصادي في سنغافورة، وإنما أيضا حافظ على بعض السياسات الاقتصادية الإيجابية التي تركها البريطانيون.
كان أحد هذه المشاريع برنامج إدخار وطني إجباري يعرف بـCPF والذي بدأ عام 1955 هذا البرنامج يجعل الموظفين يشاركون بنسبة من رواتبهم الشهرية في ادخار مستقبلي، بفضل ذلك تمكن اليوم حوالي 85% من السنغافوريين من امتلاك منازل لهم.
يقول (لي هسين لونج): أعتقد أننا ركزنا بشكل كبير على الحفاظ على نزاهة نظامنا فنحن نتعامل بصرامة مع الفساد كما نركز بشكل كبير أيضا على الأكفاء في تشغيل النظام مما يجعل القيادة فاعلة وقادرة على الإبداع، والترقيات من نصيب الأفضل، الرجل المناسب في المكان المناسب.
وتحمل سنغافورة النظيفة بصمة (لي كوان يو) الواضحة، ولا يعتذر عن تأثيره النافذ في بلاده: "إذا كانت سنغافورة دولة مربية، فأنا فخور برعايتها وتنشئتها". واختار (لي كوان يو) اللون الأبيض للباس حزب العمل الشعبي الحاكم. وسأله مرة أحد الصحافيين عن سبب اختيار هذا اللون، فأجابه: "هذه الملابس ترمز إلى الشفافية والنظافة".
وما أن اقتربت مرحلة السبعينيات من نهايتها حتى كانت البلاد قد وضعت حداً نهائياً لمشكلة البطالة، وأتاح لها ذلك الانصراف إلى مشكلات أخرى، مثل تحسين نوعية المنتجات، ورفع مستوى التعليم، بحيث لا يقل عن أفضل المستويات العالمية. وليس هناك شك في أن التقدم التقني المتسارع الخطى الذي أخذت البلاد على عاتقها مواكبته أولاً بأول قد سمح لها بأن تحوّل القلب الذي ليس له جسد إلى قلب ذي جسد.
لقد سمحت لها المواصلات والاتصالات الحديثة بأن يكون جسدها موجوداً في أقصى البقاع. وبعد أربعة عقود من العمل الجاد، تحقق الحلم. وانتقلت سنغافورة من العالم الثالث إلى العالم الأول.
يقول (لي كوان يو): "لا اعتقد أن طريق الديمقراطية تؤدي إلى التنمية، بل أرى أن البلد يحتاج إلى النظام أكثر من حاجته إلى الديمقراطية".
وعن أحد أسرار نجاح سنغافورة يقول (فيليب يو): "إن الطريقة الوحيدة للاحتفاظ بحماس الشباب هنا اجتذاب الشباب اللامعين من الخارج لإذكاء شعلة الحماس في المدارس، نحن في الأساس صورة مصغرة من أميركا فنحن نجتذب المهارات من كل مكان، وأعتقد أن هذا هو العنصر الأساسي، الأساس في سياستنا هو ضمان أن لا يرى الشباب أننا نعيش في مدينة مرفهة، ولكن أن لدينا بالفعل منافسين مصممين على التطور وأداء عمل أفضل منا، وهذا أمر مهم".
ويقول (فيليب يو) أيضا: "ليس لدينا أسرار، لدينا فقط كلمة واحدة اسمها «العمل» سنغافورة مبنية دون موارد على الإطلاق، لا يوجد سر، إنها كلمة بسيطة وهي العمل، العمل الجاد. والشيء الجيد في سنغافورة أننا لا نمتلك موارد، الحقيقة أننا لا نمتلك موارد أو ثروات طبيعية حتى أننا ليس لدينا أرض لزراعة غذائنا، كل شيء نأكله مستورد، 50% من المياه مستوردة، السر حافز الدافعية للعمل الجاد والبحث عن طرق لكسب العيش، إذا كانت لدينا كل الموارد الطبيعية ربما لم يكن هناك مبرر للعمل".
وإذا أردت اليوم أن تتحدث عن سنغافورة فستجد الكثير في خامس أغنى دولة في العالم .. اقتصاد جبار يشمل كبرى الأسواق المالية التي تضم أكثر من 700 مؤسسة أجنبية و60 مصرفا تجاريا إضافة إلى بورصة مزدهرة لتبادل العملات الصعبة بحجم 60 مليار دولار. وهي من أكثر بلدان الأرض أمنا، ومن أكثرها اطمئنانا، كما هي نموذج في المحافظة على البيئة، ومثال في المحافظة على مستوى المعيشة .. إنها وباختصار تتقدم الآخرين في كل شيء.