من منا لا يثور حمية ويشتد غيظا إذا نعت بهذا الوصف المشين أو أخبر عنه بهذا الوصف المهين، من أنه مصاب بالاستلاب الحضاري والتأثر بالغرب وتقليده تقليدا أعمى ؟
ولكن الحقيقة التي تغيب عنا في خضم هذه الحمية والثورة، أننا نقع في صور من هذا الاستلاب الحضاري دون أن نعمد إليها سبيلا، أو نلقي إليها بالا، فالاستلاب الحضاري كالشرك في أنه "أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء" وبالمثال يتضح الإشكال، فبعض صور هذا الاستلاب الحضاري، يكمن في أننا قد تعودنا أن نصف كل ذي زي جميل، ومظهر حسن بــ"فلان يهتم بالموضة، أو فلان متحضر، أو فلان عصري أو خواجة، إلى ما هنالك من مصطلحات وعبارات تختلف في لفظها وتتحد في مضمونها الايجابي الذي يشير إلى الرضى عن الشخص والثناء عليه، في الوقت الذي نصف الشخص الذي لا يحافظ على مظهره، أو يتساهل في أناقة ملابسه ونظافة ثيابه، بأنه مطوع أو زاهد أو محافظ أو متزمت... إلى ما هنالك من نعوت تختلف من بلد لآخر وتتحد في الدلالة على معنى السلبية والضعة والتحقير والاستهزاء.
والأمر في غاية الخطورة وحساسية الدلالة والمغزى، فإننا من طول ما تعودناه من مشاهدة الغربيين وهم يتصدرون القنوات الإعلامية والمحافل والبعثات الدولية، أعطينا النظافة والأناقة للغربيين، أو من يسير في ركابهم من مبتعثين أو مساعدين، وفي المقابل فإننا وللأسف كثيرا ما نشاهد أشخاصا يشار إليهم بالبنان، على أنهم يمثلون الدين الإسلامي ولهم مكانة علمية وروحية عندنا من أئمة ودعاة ومدرسين ووعاظ، وهم يتساهلون في المظهر والزي لدرجة تصل إلى التقشف والتفريط في النظافة، ولا يرون في ذلك حرجا أو غضاضة، بل ربما حسبوا بعض ذلك أو جله قربة إلى الله، وقضية الزهد ونزعات التصوف المغلوط، والممارسات التي شاعت في عصور ضعف الأمة وابتعادها عن منهج الله، لا تزال حاضرة في الذاكرة الجماعية، وماثلة في الواقع الإسلامي على تفاوت في الظهور والضمور هنا أوهناك، وحساسية الموقف وخطورة الأمر تكمن في أن هؤلاء الأشخاص الذين يحتلون مكانة بارزة بين المسلمين، بسلوكهم هذا يجعلون العامة من الناس يحكمون بأن الدين الإسلامي دين تقشف وتخلف وتساهل بأمر النظافة، وبالتالي فالحضارة العربية الإسلامية هي كذلك، ومن هنا تكمن الكارثة، ويأتي التناقض العجيب، فكيف نعتز بدين نلصق به تهم التخلف والسلبية، وكيف ندعوا إليه ونحن نطعن فيه ونظهره في ثوب السلبية، والتقشف ؟!
لعل هذا التناقض الصارخ، والتنافر القائم بين السلوك والتصورات، ناجم عن أسباب وبواعث من أهمها:
أولا: الجهل الشديد بهذه الحضارة ودينها الإسلامي الحنيف، وما يدعو إليه من رقي وتحضر، وما يشتمل عليه من مبادئ وأخلاق حميدة جميلة وسمت حسن أنيق، هي أبعد ما تكون عن الخمول والتقشف والتساهل بالمظهر، فبربك كيف ينسب شيء من ذلك إلى حضارة كتابها المقدس ودستورها الخالد، يجعل الطهارة شرط صحة لأعظم شعيرة لديه وأعظم عبادة عنده، ألا وهي الصلاة التي هي عماد الدين ومرتكزه الذي يقوم عليه، فيأمر المسلمين قائلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] وينادي رب العزة والجلال رسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه، في بدايات الرسالة وبواكير البعثة، نداء تقدير وإجلال وتكليف وبيان: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 1 - 4] في ترابط رهيب وتناسق بديع، بين تعظيم الخالق وتمجيده، والتطهر من الأوساخ المادية والمعنوية، وها هو الرسول الكريم المصطفى صلوات الله وسلامه عليه يستوعب الأمر ويتفاعل مع مضامين التكليف، بمنتهى الإيجابية والفهم عن الله، فيعلي من شأن الطهارة والنظافة ويرفعها إلى مستوى يجعلها فيه من الإيمان، الذي هو أعلى مرتبه من الإسلام، بل يقول "الطهور شطر الإيمان" رواه مسلم.
ثانيا: أننا وللأسف نتعامل مع قيمنا الإسلامية الحضارية، بمستوى من العفوية والإهمال يوقعنا في كثير من الأخطاء والمزالق غير المقبولة، وقد آن الأوان لأن نعي دور الإعلام والدعاية في الترويج للأفكار والمعتقدات، والتنفير منها في المقابل، فتأثيرات العولمة اختصرت المسافات، فجعلت العالم يعيش في قرية كونية واحدة، وينظر إلى شاشات متصلة، وهذا ما يجعل التفريط في هذه النواحي، وإهمال هذه الجوانب اليوم خطرا جسيما وإثما عظيما، فالإسلام اليوم يدخل القارات الخمس، ويتربع على الكراسي الغربية باعتزاز، بعد أن بدأ الغرب يدخل في دين الله أفواجا.
ثالثا: إن التلكؤ والتردد في أخذ الكتاب بقوة والاستمساك بدين الله في جدية لن يبعث إلا على مزيد من التناقض والإخفاقات والتِّيه، في حين أن العودة إلى آداب الإسلام ومراجعة تعاليمه كفيلة بحل المشكلة والتغلب على الإشكال، وإصلاح الحال المتردي "ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها" ونحن أبناء المجتمعات الإسلامية، ينظر إلى أعمالنا بألف عين وعين ويحسب لسلوكنا ألف حساب، فإما أن نكون منفرين فتانين، وعندها نكون قد تولينا ونكثنا العهود مع الله والله قد توعدنا بالاستبدال لنا والاستغناء عنا {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] أو نكون دعاة بالعمل والأسوة قبل أن ندعو بالقول والكلمة، فنكون قادة في معارك الفتح الإسلامي ومبشرين بفجره المرتقب، وعندها نكون على موعد مع نصر الله وعنايته ورعايته {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] وذلك النصر يكون لا محالة بإحدى الحسنيين، أن نلقى الله ونحن على منهج الله، أو الوصول إلى التمكين لدين الله والقيام بمهمة الاستخلاف في الأرض {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 6] والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل.