لم يزل الكتاب حاضن الثقافة الأول منذ العصور الأولى للثقافة المكتوبة، وقد اختزن – لما تميز به من بساطة ومرونة – في ذاكرته اللا متناهية السعة الكثير الكثير من علوم وأخبار وآداب الأمم المتعاقبة، وحمل على جنبات صفحاته وبين طيات سطوره علوم الأولين والآخرين، لذا فلا غرو أن كان موردا نادرا للمعرفة وجوهرا نفيسا يتنافس على اقتناءه طلاب العلوم ومقتنصي شوارد الأفكار ويحتال لاستعارته شغوفي القلب باكتناز لآلئ المعارف من كل جيل وعصر ومِصر، ولا عجب أن بذلوا في تحصيله الغالي والنفيس؛ فلطالما أُغلِيت المهور للعقائل وجُنِّبت الوسائل للأصائل – كما يقول النيسابوري - ورغم بدائية وبساطة الأدوات التي كان يستخدم أسلافنا لتخزين المعلومات واحتضان تفاصيل المعرفة فإن منتوجها النهائي والذي هو الكتاب أو الصحيفة كان ثمينا للغاية.
يكتسب نفاسته وقيمته المادية والمعنوية من أمور عدة؛ من ضمنها: مضمون النص، وجودة خط الكاتب وضبطه وإتقانه، وقرب عهد النسخة من زمان تأليفها وجودة تحريرها أو تعليق المؤلف عليها، إلى غير ذلك من الميزات التي ما زالت معتمدة كمقومات أساسية في تقويم ندرة المخطوطات ونفاستها إلى يومنا هذا، والشواهد العملية التي حفظها لنا التاريخ والدالة على المكانة السامقة التي حظي بها الكتاب عند رواد عصور النهضة في تاريخ الإسلام ومدى تقييمهم له لا تكاد تحصى كثرة؛ من ذلك ما ذكره الحافظ المحقق ابن الجزري رحمه الله؛ حيث قال: تنافس الناس في مؤلفات الشاطبي ورغبوا في اقتناء النسخ الصحاح منها إلى غاية، حتى إنه كان عندي نسخة من نظميه في القراءات وعلم الرسم بخط الحُجَيج صاحب السخاوي مجلدة فأعطيت بوزنها فضة فلم أقبل، ويروى أن الحاكم الْمُسْتَنْصر بِاللَّه - أحد ملوك الأندلس – لما سمع بعكوف أبي الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ – وهو ببغداد إذ ذاك - على تأليف بعض كتبه في تاريخ الأدب وفنونه بعث إليه بألف دِينَار على أَن يُوَجه لَهُ نُسْخَة من الكتاب فور تأليفه، يقول المقري: فطار الكتاب إلى الأندلس قبل أن تتلقفه أيدي الوراقين ببغداد .
ما سنتحدث عنه في هذا المقال هو فن إعارة الكتب وبعض الطرف والنكات التي تتعلق به، فمنذ ظهور ظاهرة الكتاب والذي هو عبارة عن مجموعة صحائف مكتوبة أو مطبوعة مصنوعة من الورق أو مادة أخرى، مثبتة مع بعضها من جهة واحدة، مغلفًة غالبا بطريقة تحفظها سليمة منذ نشوء هذه الظاهرة وتفشيها في الإسلام منتصف القرن الأول الهجري وهي تُعنى بالاهتمام من قبل طيف واسع من الناس فقد انصرفت همة فِئام من البشر إلى إنشاء المكتبات وملء الخزائن بذخائر الكتب ونوادر الصحف، وهامت همم بالاشتغال بهذا العمل الجليل وتعلقت به نفوس، لذلك فلا عجب أن يصبح اقتناء الكتاب عزيزا؛ تجود نفس صاحبه ببذل الطارف والتليد من ماله دونَه؛ كما صرح بذلك بعض سدنة العلم وأرباب الأدب حين قال:
أجود بجل مالي لا أبالي وأبخل عند مسألة الكتاب
وذاك لأنني أنفقت حرصاً على تحصيله شرخ الشباب
وبين ظريف آخر السبب الذي يمتنع لأجله من إعارة كتبه:
إن الذين استعاروا كتبنا حسبوا أن الإعارة منها تملك الكتب
بالرغم من كل ذلك فقد ظلت استعارة الكتب موردا هاما من موارد المعرفة ومعينا ممتلئا بالوُرَّاد العطشى نفوسهم للعلم، خاصة وأن بعض الكتب النوادر قد لا تتوفر لطالبها بالشراء أو لا يتوفر لطالبها ثمن شرائها، ومن ثم فإن طلاب المعرفة وحملة الآداب لم يتنكبوا طريقا يحصلون بها على ما يروي ظمأهم من مراجع المعرفة ومصادر العلوم إلا وسلكوها؛ فاستخدموا الشعر وملح الأدب أداةً هامة للنجاح في استخلاص الكتب من بين أحضان مُلَّاكها على سبيل الهبة أو الإعارة وربما في بعض الحالات للامتنان بها وإبراز ما تحتله من مكانة في حنايا وجدان أصحابها، ومن أعجب ما روي في ذلك أن أبا الحسن علي بن أحمد الفالي الأديب كانت له نسخة من كتاب الجمهرة لابن دريد في غاية الجودة، ودعته الحاجة إلى بيعها، فباعها، واشتراها الشريف المرتضى بستين ديناراً (255 جراما من الذهب، وهو ما يعادل تقريبا: 33000 ريال قطري بسعر هذه الأيام حسب المواقع المتخصصة في تحديد أسعار الذهب مقابل العملات)، فلما تصفحها الشريف المرتضى وجد فيها أبياتاً بخط بائعها أبي الحسن الفالي:
أنست بها عشرين حولاً وبعتها ... لقد طال وجدي بعدها وحنيني
وما كان ظني أنني سأبيعها ... ولو خلدتني في السجون ديوني
ولكن لضعفٍ وافتقارٍ وصبيةٍ ... صغارٍ عليهم تستهل شؤوني
فقلت ولم أملك سوابق عبرةٍ ... مقالة مكوي الفؤاد حزين:
"وقد تخرج الحاجات يا أم مالك ... كرائم من ربٍ بهن ضنين"
فرد عليه النسخة، وأعطاه الثمن ليستعين به على أموره.
وبعض أهل العلم كانوا لا يعيرون كتابًا إلا بِرَهْنٍ على الكتاب المعار؛ قال السّكن: طلبت من إبراهيم بن ميمون الصائغ كتابًا، فقال: هات رهنًا، فدفعت إليه رهنًا لآخذ الكتاب.
قال الطحاوي كان الشافعي قد طلب من محمد بن الحسن كتاب السير فلم يجبه إلى الإعارة فكتب إليه:
قل للذي لم تر عينا ... من رآه مثله
العلم يأبى أهلُه ... أن يمنعوه أهلَه
فوجه إليه به في الحال هدية لا عارية .
وكتب كشاجم الأديب الشاعر إلى صديق له استعار منه دفترا ثم ضن به عليه وحبسه عنه:
غدرت بحبس دفترنا ... وعهدي بالأديب ثقة
ولست أحب للأدبا ... ء أن يتأدبوا سرقه!
وفي القرن الثالث عشر الهجري أرسل محمد بن الطلبة الشنقيطي إلى العلامة حرمة بن عبد الجليل العلوي يستعير منه كتاب: «تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام» للقاضي إبراهيم بن علي بن فرحون، اليعمري، وهو من نوادر كتب فقه القضاء والمرافعات وأرفعها تنظيما وترتيبا وموضوعا فلم يجد حرمة بدا من الاستجابة لطلب ذلكم الشاعر الأديب فبعث إليه بالكتاب ومعه أبياتا تدل على ما تعانيه نفسه من بُرَحاء الوجد والإشفاق لمفارقته هذا الكتاب النفيس:
يا بن المشايخ والأشياخ أسلافه جزاء من يسعف العافين إسعافه
لكنَّ تبصرة الحكام مبخلة ولؤلؤ وسواد القلب أصدافه
ومن أعار سواد القلب أتلفه لكن يهون علينا فيك إتلافه
هذه الدروس وغيرها تدل على الأدب الرفيع الذي تحلت به نفوس حملته وهم يعيرون كتابا أو يستعيرونه يهبوه أو يستوهبونه، ورغم اختلاف وجهات النظر في ذلك من نظرة تغالي في منع إعارة الكتب إلى أخرى لا ترى بأسا بذلك إلى وجهة نظر ثالثة ترسل زفرات الحسرة وعبرات الندم حتى بعد تعويضها عن الكتب أثمانها من الذهب رغم الاختلاف الواضح بين وجهات هذه النظر إلا أنا رأينا استسلام أصحابها جميعا إلى سلطان الأدب وانقيادهم لأحكامه وإن كانت عليهم لا لهم وكذلك هي النفوس الرفيعة دوما تأخذ بأدب وتعطي بأدب وتمنع بأدب لتستزيد أدبا في كل حالاتها.