وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود جولات في المدينة المنورة وحولها، والمتأمل في السيرة النبوية يرى ذلك واضحاً جلياً مع قبائل يهود المدينة الثلاث: بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة.. وبعد أن فَرغ النبي صلي الله عليه وسلم من صلح الحديبية، عزم على تصفية خطر اليهود والقضاء على كيدهم ومؤامراتهم، فأمر بالتجهز للخروج إلى خيبر، التي أصبحت آخر معقل من معاقل اليهود ووكراً لمؤامراتهم على الإسلام والمسلمين، فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم في حصونهم، وأخذ في فتح هذه الحصون واحداً تلو الآخر، وهزمهم فيها، ولم يكن ذلك إلا مجازاة لغدرهم به، ونقضهم للعهد الذي بينهم وبينه بمظاهرة أعدائه عليه، واعتدائهم على المسلمين، وانتهاكهم حرمات الإسلام، فكان ذلك جزاؤهم جزاءً وفاقاً.
ولما فتح الله عز وجل على المسلمين خيبر ـفي شهر محرم من العام السابع من الهجرةـ وسمع بهم أهل فدك (بلدة يهودية بالقرب من خيبر)، بعثوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يحقن دماءهم، ويسمح لهم بالجلاء عنها، قال ابن هشام: "وحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أهل خيبر في حصنيهم الوطيح والسلالم، حتى إذا أيقنوا بالهلكة، سألوه أن يسيرهم (يجليهم) وأن يحقن لهم دماءهم، ففعل .. فلما سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا، بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يسيرهم، وأن يحقن دماءهم، ويخلوا له الأموال، ففعل".
وفي منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر فتح وادي القرى، وهو وادٍ ممتلئ باليهود، توقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجد مقاومة تُذكر، إلا سهماً طائشاً أصاب خادمه مِدْعم رضي الله عنه فقتله، وكان في موت مِدعم درساً للصحابة رضوان الله عليهم وللمسلمين من بعدهم.
روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: (افتتحنا خيبر، ولم نغنم ذهباً أو فضة، إنما غنمنا البقر والإبل والمتاع والحوائط (البساتين)، ثم انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي القرى، ومعه عبد له يقال له: مِدْعَم، أهداه له أَحَدُ بني الضِّبَاب (قبيلة من جذام)، فبينما هو يَحُطُّ (يُنزل) رَحْلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه سهم عائر (لا يُدرى من رمى به)، حتى أصاب ذلك العبد، فقال الناس: هنيئاً له الشهادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل، والذي نفسي بيده، إن الشَّمْلَةَ (كساء غليظ يُلْتحف به) التي أصابها يومَ خيبر من المغانم، لم تصبها المقاسم (أخذها قبل إدخالها في القسمة)، لتشتعل عليه ناراً، فجاء رجلٌ حين سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم بشراك أو بشراكين (جلدة النعل على ظهر القدم) فقال: هذا شيء كنتُ أصبته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شراك، - أو شراكان - من نار) رواه البخاري.
الغنيمة: ما غنمه المسلمون واستولوا عليه من أموال العدو ومعداتهم بالقوة والقتال، وهي حق من حقوق الآدميين، لتعلقها بالمال العام، والغلول: هو السرقة من الغنيمة قبل قسمتها بين المسلمين، قال النووي: "(الْغُلُول) الخيانة, وأصْله السَّرِقَة مِنْ مَال الغنِيمة قبل القسمة".
قال النووي في قول النبي صلى الله عليه وسلم عن مِدْعَم: "(شراك، -أو شراكان- من نار): "فيه تنبيه على المعاقبة بهما، إما بنفسهما أي: يغلى بهما، وهما من نار، أو هما سببان لعذاب النار، وفيه غلظ تحريم الغلول، وأنه لا فرق بين قليله وكثيره في التحريم حتى الشراك، وأن الغلول يمنع من إطلاق اسم الشهادة على من غلَّ". قال القاري معقباً على قول النووي: "وفيه بحث؛ إذ لا دلالة في الحديث على نفي شهادته، كيف وقد قُتِل في سبيل الله وخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يشترط في الشهيد أن لا يكون عليه ذنب، أو دَيْن بالإجماع"، قال النووي: "وفيه جواز الحلف بالله من غير ضرورة"، قال القاري: "بل هو لتأكيد الحكم، فليس بلا فائدة".
ومن المعاني والفوائد المستفادة من الموقف النبوي في حديثه عن خادمه مِدْعم رضي الله عنه في غزوة وادي القرى:
ـ جواز الحكم بالظاهر، فالصحابة رضي الله عنهم لما رأوا السهم قتل مِدْعماً رضي الله عنه حكموا له بالشهادة لمجرد ظاهر الأمر، ثم بعد ذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم بما علم من باطنه.
ـ تحريم الغلول من الغنائم قبل أن تُقسم، ولو كان شيئاً صغيراً، وبيان أن من مات وهو غالٌّ عُذِّب به في النار.
ـ جواز الحلف على شيء يكون الإنسان فيه عالماً بمآله، وعالماً بصدقه، للتأكيد عليه، فقد حلف النبي صلى الله عليه وسلم ليؤكد للناس ما يقع من عذاب الغالِّ، فقال: (والذي نفسي بيده، إن الشَّمْلَةَ التي أصابها يومَ خيبر من المغانم، لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه ناراً).
ـ لعذاب القبر أسباب بيّنها النبي صلى الله عليه وسلم لتحذيرنا من الوقوع فيها، ومن هذه الأسباب: الغلول، وهو ما أخفي من الغنيمة عن القسمة، ولذلك أورد البيهقي في كتابه المتعلّق بإثبات عذاب القبر حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن خادمه مِدْعم رضي الله عنه، وبوّب على الحديث بقوله: "باب ما يخاف من عذاب القبر في الغلول".
فائدة:
ـ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (لما كان يوم خيبر أقبل نفر من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: فلان شهيد، فلان شهيد، حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلا، إني رأيته في النار في بردة (كساء مخطط) غلَّها أو عباءة) رواه مسلم. قال ابن حجر: "(رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة) فهذا يمكن تفسيره بكِرْكِرَة، بخلاف قصة مِدعم فإنها كانت بوادي القرى ومات بسهم عائر وغلّ شملة، والذي أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم كِرْكِرَة هَوْذَة بن عليّ، بخلاف مِدعم فأهداه رفاعة فافترقا".
ـ وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يُغْفَرُ للشهيد كل ذنبٍ إلَّا الدَّيْنَ) رواه مسلم، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (لما كان يوم خيبر أقبل نفرٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: فلانٌ شهيدٌ، وفلانٌ شهيدٌ، حتى مروا على رجل، فقالوا: فلانٌ شهيد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلا إني رأيتهُ في النار في بُردةٍ غلّها أو عباءة) رواه مسلم.
هذان حديثان صحيحان رواهما مسلم في "صحيحه" وليس بينهما اختلاف، فالحديث الأول يدل على أن الشهيد يُغفر له كل ذنب عمله إلا الدَّين، فإنه لا يُغفر له، وذلك لتعلقه بحقوق الآدميين، فحقوق الآدميين لا تكفرها الشهادة. والحديث الثاني بين أن الله عز وجل يتجاوز عن الشهيد إلا في تبعات وحقوق الآدميين، والمقصود بالديْن في الحديث حقوق الآدميين، لا خصوص الدَيْن. قال النووي والقرطبي في قوله صلى الله عليه وسلم: (إلا الدَّيْن): "فيه تنبيه على جميع حقوق الآدميين، وأن الجهاد والشهادة وغيرهما من أعمال البر لا تكفِّر حقوق الآدميين، وإنما تكفر حقوق الله تعالى".
وقال ابن حجر: "(إن الشهيد يُغفر له كل شيء إلا الدَّيْن) فإنه يستفاد منه أن الشهادة لا تُكَفِّر التَّبِعَات، وحصول التبعات لا يمنع حصول درجة الشهادة، وليس للشهادة معنى إلا أن الله يثيب من حصلت له ثواباً مخصوصاً ويكرمه كرامة زائدة، وقد بين الحديث أن الله يتجاوز عنه ما عدا التبعات، فلو فرض أن للشهيد أعمالاً صالحة وقد كفرت الشهادة أعماله السيئة غير التبعات، فإن أعماله الصالحة تنفعه في موازنة ما عليه من التبعات، وتبقى له درجة الشهادة خالصة، فإن لم يكن له أعمال صالحة فهو في المشيئة".
تمر السنون والأعوام وتظل السيرة النبوية بغزواتها وأحداثها ومواقفها نبراساً يضيء لنا الطريق في تعاملنا مع أنفسنا ومع أعدائنا، وتأخذ بأيدينا إلى الأمن والسعادة في الدنيا والآخرة.