«الأدب» .. تلك الملكة التي تَعصِم من قامَت به عمَّا يَشينه، كما قال الزبيدي، أو هو معرفة النفس ورُعوناتها، وتجنُّب تلك الرُّعونات، كما أشار ابن المبارك، فالأدب رياضة النَّفس على محاسن الأخلاق والعادات وجميل الصفات، وعدَّه بعض الحكماء أحد أربعة أمور بها يسود العبد، وهي: "العلم، والأدب، والفقه، والأمانة". بل لا يتم عقل المرء إلا بالأدب، فعن عامر بن قيس قال: "إذا عَقَلَكَ عقلُك عما لا ينبغي فأنت عاقل".
فالأدب جمال الباطن والظاهر، وشرف في كل حال ومجال .. قال شبيب بن شيبة: "اطلبوا الأدب فإنه مادة العقل، ودليل المروءة، وصاحب الغربة، ومؤنس في الوحشة، وحلية في المجلس، ويجمع لكم القلوب المختلفة". وعن عمران الخزاعي قال: سمعت الحسن يقول: "ما تمّ دين عبد قط حتى يتم عقله".
إذا تم عقل المرء تمت أموره وتمت أياديه وتم ثناؤه
عن أبي رزين قال: قيل للعباس - رضي الله عنه -: أنت أكبرُ أو النبي - صلى الله عليه وسلم-؟ قال: "هو أكبر، وأنا ولدتُ قبله".
ولما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، نزل على أبي أيوب -رضي الله عنه-، فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السفل، ونزل أبو أيوب العلو، فلما أمسى، وبات؛ جعل أبو أيوب يذكر أنه على ظهر بيتٍ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسفل منه، وهو بينه وبين الوحي، فجعل أبو أيوب لا ينام يحاذر أن يتناثر عليه الغبار، ويتحرك فيؤذيه، فلما أصبح غدا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! ما رأيت الليلة فيها غمضًا أنا ولا أم أيوب، فقال: (ومم ذاك يا أبا أيوب؟) قال: ذكرت أني على ظهر بيتٍ أنت أسفل مني، فأتحرك، فيتناثر عليك الغبار، ويؤذيك تحركي، وأنا بينك وبين الوحي.
وعن أبي أيوب -رضي الله عنه- قال: لما نزل عليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلت: بأبي وأمي إني أكره أن أكون فوقك، وتكون أسفل مني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أرفق بنا أن نكون في السُّفل لما يغشانا من الناس)، فلقد رأيت جرَّة لنا انكسرت، فأهريق ماؤها، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة [كساء له خمل] لنا، وما لنا لحاف غيرها ننشف بها الماء فَرَقَا [خوفا] من أن يصل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منا شيء يؤذيه.
ولما أذنت قريش لعثمان - رضي الله عنه- في الطواف بالبيت حين وجَّهه النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهم في قصة الحديبية، أبى -رضي الله عنه-، وقال: "ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله - صلى الله عليه وسلم-".
الأدب خير نسب
قال أهل العلم: الفضل بالعقل والأدب لا بالأصل والنسب، لأن من ساء أدبه ضاع نسبه، ومن ضل عقله ضل أصله، وقالوا: زكِ قلبك بالأدب كما تزكي النار بالحطب، وحسن الأدب يستر قبيح النسب.
حكي أن رجلا تكلم بين يدي المأمون فأحسن، فقال: ابن من أنت؟ قال: ابن الأدب يا أمير المؤمنين، قال: "نِعم النسب انتسبت إليه"، ولهذا قيل: المرء من حيث يثبت لا من حيث ينبت، ومن حيث يوجد لا من حيث يولد.
وقال بعض الحكماء: من كثر أدبه كثر شرفه وإن كان وضيعا، وبعد صيته وإن كان خاملا، وساد وإن كان غريبا، وكثرت حوائج الناس إليه وإن كان فقيرا.
حسن الأدب
من حسن الأدب أن لا تنازع من فوقك، ولا تقول ما لا تعلم، ولا تتعاطى ما لا تنال، ولا يخالف لسانك ما في قلبك، ولا قولك فعلك، ولا تدع الأمر إذا أقبل، وتطلبه إذا أدبر.
قال ابن المقفع: ما نحن إلى ما نتقوى به على حواسنا من المطعم والمشرب بأحوج منا إلى الأدب الذي هو لقاح عقولنا، فإن الحبة المدفونة في الثرى لا تقدر أن تطلع زهرتها ونضارتها إلا بالماء الذي يعود إليها من مستودعها.
حكى المبرِّد: "سأل المأمونُ يحيى بن المبارك عن شيءٍ، فقال: لا، وجعلني الله فداك يا أمير المؤمنين. فقال: لله دَرُّك، ما وُضِعَتْ واوٌ قطُّ وضعًا أحسن منها في هذا الموضع. ووصله وحمله".
وروي أن الرشيد كان في داره حزمة خيزران، فقال لوزيره الفضل بن الربيع: ما هذه؟ فقال: عروق الرماح يا أمير المؤمنين. ولم يُرِدْ أن يقول الخيزران، لموافقته اسم أُمِّ الرشيد.
قال ابن القيم: "وأدب المرء عنوان سعادته وفلاحه، وقلة أدبه عنوان شقاوته وبواره، فما استجلب خير الدنيا والآخرة بمثل الأدب، ولا استجلب حرمانها بمثل قلة الأدب، فانظر إلى الأدب مع الوالدين كيف نجى صاحبه من حبس الغار حين أطبقت عليهم الصخرة، والإخلال به مع الأم تأويلا وإقبالا على الصلاة كيف امتحن صاحبه بهدم صومعته وضرب الناس له ورميه بالفاحشة. وتأمل أحوال كل شقي ومغتر ومدبر كيف تجد قلة الأدب هي التي ساقته إلى الحرمان".
قال الحجاوي رحمه الله: "مثل الإيمان كمثل بلدة لها خمسة حصون: الأول من ذهب، والثاني من فضة، والثالث من حديد، والرابع من آجر، والخامس من لَبِن، فما زال أهل الحصن متعاهدين حصن اللبن، لا يطمع العدو في الثاني، فإذا أهملوا ذلك؛ طمعوا في الحصن الثاني، ثم الثالث حتى تخرب الحصون كلها. فكذلك الإيمان في خمسة حصونٍ: اليقين، ثم الإخلاص، ثم أداء الفرائض، ثم السنن، ثم حفظ الآداب، فما دام يحفظ الآداب ويتعاهدها؛ فالشيطان لا يطمع فيه، وإذا ترك الآداب؛ طمع الشيطان في السنن، ثم في الفرائض، ثم في الإخلاص، ثم في اليقين".
الأدب نور العقل
ما استنارت العقول بمثل الأدب، ولا فتح لها باب العلم إلا به، ولذلك قال عمر -رضي الله عنه-: "تأدّبوا ثم تعلّموا" .. قالوا لأن بالأدب يفهم العلم، وبالعلم يصلح العمل، وبالعمل تنال الحكمة.
قال الأحنف بن قيس: الأدب نورُ العقل، كما أن النار نور البصيرة.
وقال عبد الله بن المبارك: "لا ينبل الرجل بنوع من العلم، ما لم يزين علمه بالأدب"
وقال أبو عبد الله البلخي: "أدب العلم أكثر من العلم".
وقال ابن سيرين رحمه الله: "كانوا [أي الصحابة] يتعلمون الهدي [أي السيرة والهيئة والطريقة والسَّمْت] كما يتعلمون العلم". وقال بعضهم لابنه: "يا بني، لأن تتعلم بابًا من الأدب أحب إليَّ من أن تتعلم سبعين بابًا من أبواب العلم".
وقال الحسن البصري رحمه الله: "إن كان الرجل ليخرج في أدب نفسه السنتين ثم السنتين".
وقال ابن المبارك رحمه الله: "تعلمت الأدب ثلاثين سنة، وتعلمت العلم عشرين سنة".
قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: "الحكايات عن العلماء أحب إليَّ من كثير من الفقه؛ لأنها آداب القوم وأخلاقهم".
حكى ابن سلام قائلا: مددت رجلي تجاه الكعبة فجاءتني امرأة فقالت: إنك من أهل العلم لا تجالسه إلا بالأدب وإلا محا اسمك من ديوان القرب.
وقال القاسمي رحمه الله: "أدب النفس ممدوح بكل لسان، ومتزَّين به في كل مكان، وباقٍ ذكره مدى الأزمان، وكل من أعار الوجود نظرة البصير؛ علم أن حاجة المرء إلى تأديب نفسه من أهم الحاجات، وإذا كان الرجال بالأعمال؛ فإن الأعمال هي آثار الآداب والأخلاق والشهادات فحسب، فإن العلم آلة تديرها الأخلاق، وتسيرها الآداب.
خير ما ورث الرجال بنيهم أدب صالح وحسن الثناء
هو خير من الدنانير والأوراق في يوم شدة أو رخاء
تلك تفنى والدين والأدب الصالح لا يفنيان حتى اللقاء