لا شك في أهمية القيم الإنسانية، وأنها مطلب من مطالب البشرية جميعاً، ولا يختلف اثنان في ضرورة وجود المثل العليا في حياة الناس، لتحكمهم، وتسير بهم وتحثهم على البذل في سبيل تحقيق الصالح العام، وعدم تقديم مصلحتهم الخاصة عليه، فالناس متفقون أنه كلما كانت هذه المثل سامية كان المجتمع أكثر أمناً وسعادة، رغم اختلافهم في ماهية تلك المثل ونوعيتها.
اهتم الإسلام بالأخلاق اهتماماً كبيراً، وإنما تظهر ثمرة الأخلاق في القيم والمبادئ التي تقود الإنسان إلى السلوك الحسن والأهداف العالية التي يتحرك بها في تعاملاته مع أبناء مجتمعه، نحو تحقيق أسمى المعاني، وأكمل الأهداف العامة والخاصة، والتي تتمثل في جميع شؤون حياته.
ولما كانت أمة الإسلام هي خير أمة أخرجت للناس، كانت حاجة الإنسانية جميعاً إلى تعاليمها حاجة ماسة، حتى لو أنكرت تلك الأمم هذه الحاجة وجحدتها، فالأمة الإسلامية كانت وستبقى عبر التاريخ هي المؤهلة لحمل مشعل الحضارة، وهي القادرة على قيادة الإنسانية بسم الله، لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، ولن تجد هذه الإنسانية المعذبة بمصائب الحضارة المادية الجشعة وسيلة للخلاص مما تعانيه من بؤس وشقاء إلا بهداية تعاليم الإسلام، كيف لا والله تعالى هو الذي اختارها لهذا الدور، وجعل من أهم مهماتها إنقاذ البشرية، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
نعم هذه رسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم التي جعلها الله تعالى للناس جميعاً، قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28] وهي رسالة السلام والرحمة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين} [الأنبياء: 107] فهي التي جعلت المثل العليا حقائق ثابتة يلمسها الناس في حياتهم اليومية، ولا أدل على ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم: (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِه) [البخاري] أي سمو هذا الذي يدعو إليه هذا الدين العظيم، وقد كانت هذه القيم سلوكاً ومنهاج حياة عاشها الصحابة الكرام صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وتجلت في سيرة كل من انصبغ بصبغة الإسلام، وأخذ نفسه بالالتزام بتلك المثل، حتى أن الله تعالى جعل من يعمل العمل الصالح كأنه يتعامل معه سبحانه، سواء كان ذلك في الإنفاق أو في غيره، فيكون الإنفاق والصدقة بمثابة الإقراض لله تعالى، حيث قال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245].
وبكل أسف أقول: لم تعد هذه القيم والتعاليم هي التي تُعطي الصبغة الظاهرة للسلوك الخاص والعام لدى المسلمين كما كانت عليه في عهد النبوة، ولم تعد التربية الإسلامية ومناهجها القويمة هي التي تربي عليها أمتنا ناشئتها، ولم يعد نظام الحياة الذي تسير عليه أمتنا إسلامياً كما وضعه القرآن الكريم والسنة المطهرة، تلك حقائق لا مراء فيها، فقد انساقت أمتنا منذ غُلبت على أمرها من قبل أعدائها وراء موجة طاغية من التقليد الأعمى لهم في كل مظاهر السلوك والحياة، خاصة أولئك الذين تربوا على موائدهم، وساروا على مناهج.
ولكن ورغم كل ما تمر به الأمة الإسلامية من محن ومصاعب، إلا أن الأنظار ستبقى تنصب عليها، فهي التي كانت وما زالت مؤهلة لهذه المهمة، مهمة قيادة البشرية وإنقاذها، ومن هنا كانت المطامع الاستعمارية عليها متتالية، منذ الحروب الصليبية حتى يومنا هذا، وما كل هذه الصراعات التي تعصف بالمنطقة إلا صورة من صور هذه الهجمات الاستعمارية التي كانت وما زالت تتعامل معنا ومع خيرات بلادنا، كما وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين قال: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها) [أبو داود] فكان جل أهدافهم يتمثل في محاولة إفساد الأخلاق، وإماتة الهمم، بتجنيد بعض الذين ضعف في نفوسهم الوازع الديني، والشعور الوطني لخدمة أغراضهم وأهدافهم وتنفيذ مخططاتهم الإجرامية، من أجل تحطيم عقيدتها الإسلامية بشتى الأساليب.
ولكن الإسلام بثبات أهل عليه سيقف حائلاً بين الأعداء وبين تحقيق مطامعهم، لأنه استقر في قلوبهم منذ أربعة عشر قرناً، وقد استطاع أجدادنا بصمودهم أن يردوا هجمات الصليبيين والتتار، وأن يقفوا في وجه مكائد اليهود عبر العصور، والأمة الإسلامية قادرة بإذن الله تعالى على إنقاذ نفسها وإعادة سؤددها، وهي مطالبة بإنقاذ الإنسانية من كل ما يكاد لها، وقادرة إن شاء الله على رسم صورة صحيحة من صور العدالة والسلام في العالم بأسره، وتطبيقه على أرض الواقع، لا أن يكون مجرد شعارات كما هو حال مؤسسات الأمم المتحدة وحقوق الإنسان، فقد عاشت الأقليات غير المسلمة في ديار الإسلام طيلة تاريخه الطويل، وكل ذلك شاهد على الأمن والأمان الذي كانوا يعيشونه في ظل تعاليمه وأحكامه، وخلال هذا التاريخ الطويل رُسمت أروع العلاقات بين أبناء هذه الديار جميعاً، مسلمين وغير مسلمين، والأدلة على ذلك أكثر من أن تحصى.
والإنسانية اليوم بحاجة ماسة إلى مُثلٍ سامية، تضع في نفس كل فرد رقابة داخلية دائمة، لا تفارقه في أية لحظة من لحظات حياته، تدفعه هذه المثل إلى فعل الخير وتجنب الشر، وهو الأمر الذي عجزت عن تحقيقه وسائل التربية في ظل القوانين الوضعية، بينما تحقق في ظل الإسلام، لأن الإيمان بالله جذوة تضيء قلوب الناس وتثير فيهم أكرم الموافف، وأنبل العواطف، وأشرف الأخلاق، فتعاليم الإسلام هي المرشحة لقيادة البشرية الحائرة، لأن الله تعالى قد انتدبها لذلك كما سبق، ولكنها بكل أسف تكاد أن تتيه مع التائهين، لأنها لم تستطع أن تخلص نفسها من مظاهر التناقض الذي عاشته فترة طويلة من الزمن، ولا تزال تعاني من رواسب ذلك ومخلفاته، ومن هنا فهي بحاجة قبل كل شيء إلى تطهير نفسها من مظاهر التناقض بين كونها أمة تؤمن بالإسلام وتعاليمه، وبين واقعها الذي يخالف ذلك.
وقد حدد الإسلام بعض هذه القيم من خلال قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 57 - 61] تحدد هذه الآية الكريمة أربعة عناصر يتحقق باجتماعها منتهى السمو الإنساني والتجرد، وتلك العناصر هي: الخشية من الله تعالى، والإيمان بآياته، والتنزه عن الشرك، واستشعار الخوف من لقاء الله تعالى في الآخرة، ولا شك أن اجتماع هذه العناصر الأربعة وهيمنتها على قلب المسلم تعطيه المناعة ضد الشر والعدوان، وفساد الأخلاق، كما تعطيه استعداداً كبيراً ليكون سباقاً لفعل الخير، وابتغاء مرضاة الله تعالى، وتجعل من نفسه رقيباً على كل صغيرة وكبيرة، من تصرفاته وسلوكه، يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه أحد، لأنه يستشعر الخوف من الله تعالى، ولكن استشعاره لهذا الخوف لا يعطل عنده الطاقات، بل ينميها، ويجعل الإنسان أكثر قدرة بما وهبه الله من قدرة وقابلية لخير نفسه وخير الناس كلهم، قال صلى الله عليه وسلم: (الخلق عيال الله، فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله) [البزار]، ويقول الله تعالى: {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُون} [المؤمنون: 62]. ولا شك أن ذلك يتمثل في الهداية الإلهية التي أكرم الله بها الإنسان وأراد له الوصول بواسطتها إلى السعادة والرفعة والخير، وبعث من أجل تحقيق ذلك الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، مبشرين ومنذرين، من أجل خيرهم وسعادتهم.
اهتم الإسلام اهتماماً عظيماً بتنمية الخصائص الإنسانية عند الإنسان، وجعل دافع السلوك والعمل عنده شريفاً نبيلاً، يبتغي فيه المسلم مرضاة الله تعالى، وتحقيق مصلحة ومصلحة المجتمع، في حدود أوامر الشرع الحنيف، ونواهيه، وحسبنا في ذلك قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20]. وما تواجهه الإنسانية اليوم من مشاكل تتعلق بصميم حياة الإنسان، وهي خصائصه الإنسانية وتحديد دوافعه بما تتفق وتكريم الله تعالى للإنسان، في جوانب حياته المختلفة، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70].
إن واقع الإنسانية اليوم يلقي على أمتنا عبئاً ثقيلاً هو عبء تحرير نفسها، ثم النهوض بحضارتها المنبثقة عن قيم الإسلام وتعاليمه، وتتقدم لتحمل راية إنقاذ الإنسانية من كل ما تعانيه من الآثار التي صنعتها الحضارة المادية في طمس القيم الإنسانية، والهبوط بالإنسان إلى أدنى الدرجات، وجعله مجرد رقم من الأرقام، يتحكم به أصحاب رؤوس الأموال ويوجهونه حيث أرادوا.
لقد صبغت تعاليم الإسلام وعقيدته الناصعة حضارة الأمة بصبغتها، فكانت نعم الحضارة في الغاية والوسيلة، الغاية التي تتوخاها، والأسلوب الذي تنهجه وتتبعه لتحقيق هذه الغاية، فكانت غاية نبيلة سامية، تتمثل في إنقاذ الإنسان من ظلمات الكفر والجاهلية إلى نور الإسلام والمعرفة، وقد شهدت مواقف التاريخ لهذه الأمة أنها لم تكن تبغي علواً في الأرض ولا فساداً، وإن أمتنا الإسلامية اليوم بحاجة ماسة إلى أن تستعيد سيرتها الأولى في كافة الميادين، في الصدق والثبات، وفي عدم الإخلاد إلى الأرض، وأن تستشعر مهمتها التي أناطها الله بها، وإن أجهزة الإعلام مدعوة إلى أن تربي في الناس هذه المعاني السامية، وأن تدفعهم إلى أن تحسس هذه القيم، والأمة قادرة بإذن الله تعالى على أن تستعيد ذلك كله، إن وجدت قادة يؤمنون بذلك، وينهجون النهج السليم ويسيرون على سيرة أسلافهم من العظماء، ويتأسون برسول الهدى صلى الله عليه وسلم، ومن هنا كان لزاماً على أصحاب القرار فيها، والنخب الثقافية والمفكرين أن يتفقوا على قدر من التوازن بين اتجاهات الفكر الإسلامي، بحيث يعنى بالثوابت، والجوانب الروحية والعملية معاً، إذ بدون ذلك لا يمكن أن تعود لهذه الأمة نهضتها، لأنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. هذا والله تعالى أعلم.