مما لا شك فيه أن أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم التي صدرت عنه فعلاً لا يمكن أن تتناقض أو تتعارض فيما بينها، وذلك كونه صلى الله عليه وسلم نبياً يوحى إليه، قال سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44] والبيان الوراد في الآية الكريمة بيان ألفاظه ومعانيه، ومن هنا كانت السنة النبوية المطهرة شارحة وموضحة لمعاني القرآن الكريم، وما كان كذلك لا يمكن في حقه أن يتعارض أو يتناقض؛ لأن القرآن الكريم لا اختلاف فيه، ولا تعارض، مصداقاً لقول الله عز وجل: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء:82].
ولما كانت رسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم هي الرسالة الخالدة، وهي خاتمة الرسالات والشرائع، اقتضى هذا أن تتمثل فيها كل معاني الإحكام والخلود، وقد تعهد الله سبحانه بحفظها من أن تنالها يد التحريف والتزوير، كما نالت الشرائع الأخرى مثل اليهودية والنصرانية، قال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] وكلمة {الذكر} الواردة في الآية الكريمة أعم وأشمل من القرآن الكريم كما ذكر ذلك العلماء، فهي تشمل القرآن والسنة، وحول هذا المعنى يقول الشيخ مصطفى السباعي: "إن ما وعد الله سبحانه من حفظ الذكر لا يقتصر على القرآن الكريم وحده، بل المراد به شرع الله الذي بعث به رسوله، وهو أعم من أن يكون قرآناً أو سنة، ويدل على ذلك قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]. وقد أكمل الله سبحانه لنا هذا الدين وارتضاه لنا، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:3].
وقد بين العلماء أن التعارض الحقيقي بين أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم محال، ووضحوا أن الاختلاف الذي قد نراه في بعض الأحاديث إنما هو من حيث الظاهر، وليس له في واقع الأمر من سبيل إلى أحاديثه عليه الصلاة والسلام؛ وذلك لأن الاختلاف والتناقض من مستلزمات الجهل والنقص، وهو محال في حق الشريعة المحكمة. فهذا الاختلاف الذي يبدو في الظاهر بين الأحاديث هو موضوع علم (مختلف الحديث) بفتح اللام، وقال بعضهم: بكسرها، والاختلاف ضد الاتفاق، وتخالف القوم إذ ذهب كل منهم خلاف ما ذهب إليه الآخر، أما اصطلاحاً فخلاصة رأي العلماء فيه كما يقول النووي: "أن يأتي حديثان متضادان في المعنى ظاهراً فيوفق بينهما، وهو قسمان، قسم يمكن الجمع بينهما، فيتعين ويجب العمل بهما معاً، وقسم لا يمكن الجمع بينهما بوجه، فإن علمنا أحدهما ناسخاً قدمناه، وإلا عملنا بالراجح، كالترجيح بكثرة الرواة وصفاتهم". وعرفه بعض العلماء فقال: "هو علم يبحث فيه عن التوفيق بين الأحاديث المتنافية ظاهراً، إما بتخصيص العام تارة، أو بتقييد المطلق أخرى، أو بالحمل على تعدد الحادثة أخرى، إلى غير ذلك من وجوه التأويل، وكثيراً ما يورده شراح الحديث أثناء شروحهم، إلا أن بعضاً من العلماء قد اعتنى بذلك، فدونوه على حدة". من هنا نرى أن علم مختلف الحديث يبحث في الأحاديث المتعارضة، وفي طريقة العلماء ومناهجهم في إزالة هذا التعارض، أو رفع ما فيها من إشكالات.
وقد يطلق على علم مختلف الحديث أسماء أخرى، مثل "تأويل الحديث"، أو "تأليف الأحاديث"، أو "تلفيق الأحاديث"، وبعضهم يطلق عليها "مشكل الحديث"، ويرون أن مختلف الحديث ومشكله هما مسماً واحداً، وفي هذا يقول الشيخ عجاج الخطيب: "فعلم مختلف الحديث ومشكله هو العلم الذي يبحث في الأحاديث التي ظاهرها متعارض، فيزيل تعارضها أو يوفق بينهما، كما يبحث في الأحاديث التي يشكل فهمها، أو تصورها فيدفع إشكالها ويوضح حقيقتها، ولهذا أطلق بعض العلماء على هذا العلم اسم مشكل الحديث، واختلاف الحديث، وتأويل الحديث، وتلفيق الحديث، والمراد من هذه الأسماء مسمى واحداً".
وهناك من العلماء من يرى أن ثمة فرقاً واضحاً بين (مختلف الحديث) و(مشكل الحديث) وهو الرأي الراجح. فكلمة (مشكل) كما يقول صاحب "اللسان": "الشكل بالفتح هو الشبه والمثل، وتشاكل الشيئان وشاكل كل واحد منهما صاحبه، وهذا شيء أشكل، ومنه قيل للأمر المشتبه فيه مشكل. وأشكل علي الأمر إذا اختلط"، وقال صاحب "القاموس": "أشكل علي الأمر: إذا التبس، والإشكال هو الالتباس، وحرف مشكل، أي مشتبه ملتبس". ويقول: ابن قتيبة: "سمي مشكلاً؛ لأنه أشكل، أي دخل في شكل غيره، فأشبهه وشاكله، ويقال لما غمض مشكلاً". فـ (المشكل) ما لا يتيسر الوصول إليه، وهو عند الأصوليين ما لم يُعرف المراد منه إلا بالتأمل بعد الطلب، لدخوله في أشكاله، أي أمثاله، وهو مأخوذ من (أشكل)، أي دخل في إشكال، كما يقال (أحرم) إذا دخل في الحرم.
وقد أطال الدكتور محمد أبو شهبة الكلام حول الفرق بينهما ثم قال: "والحق أن هناك فرقاً واضحاً بين المختلف والمشكل في الاصطلاح، فمختلف الحديث يكون بوجود تعارض بين حديثين، أو أكثر، أما مشكل الحديث فهو أعم من ذلك، فقد يكون سببه وجود تعارض بين حديثين أو أكثر، وقد يكون سببه كون الحديث مشكلاً في معناه، لمخالفته في الظاهر للقرآن الكريم، أو لمخالفته لحقيقة من الحقائق المتعلقة بالأمور الكونية، التي كشفت عنها العلوم، والمعارف الحديثة، كعلم الفلك، أو الطب، أو علم السنن، وهو ما يسمى في لسان الناس علم الطبيعة، وعلى هذا يكون (مشكل الحديث) أعم من (مختلف الحديث)، فكل مختلف مشكل، وليس كل مشكل يعتبر من قبيل مختلف الحديث، فبينهما عموم وخصوص مطلق". ويرى الدكتور عبدالمجيد محمود أن الإشكال قد ينشأ من مخالفة الحديث للعقل، أو للقرآن، أو للغة، أما مختلف الحديث فهو أن يكون هناك تعارض واختلاف بين حديثين، والمؤلف بينهما يزيل الاختلاف بالتوفيق بينهما، أو ببيان الناسخ، أو بالترجيح، أو بالشرح الذي يرفع به وجه الخلاف بينهما.
ومما هو معلوم أن الفقه هو أهم غاية لعلم الحديث، فمن هنا كان المحدثون يرتبون كتب الحديث على أبواب الفقه، كما هو الحال في كتب الصحاح أو السنن، ومما هو معلوم أيضاً أن علم مختلف الحديث لا يجيد الكلام فيه إلا من كان يجمع بين علم الحديث والفقه؛ ولهذا نرى أن المصنفات التي كانت تُعنى برفع الاختلاف بين الأحاديث المتعارضة، كانت تسمى بمختلف الحديث، كما صنع الشافعي حين سمى كتابه (اختلاف الحديث) وابن قتيبة الذي سمى كتابه (تأويل مختلف الحديث)، بينما نجد أن ابن فورك سمى كتابه (مشكل الحديث) لأنه كان يريد بالمشكل الأحاديث التي جاء إشكالها من جوانب أخرى غير التعارض. والناظر في كتاب (شرح مشكل الآثار) للطحاوي يجد أن معظم أبوابه ليس فيها إلا حديث واحد، يُطلق عليه: (باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) ثم يورد حديثاً واحداً في هذا الباب، وهناك بعض الأبواب تشتمل على أكثر من حديث، وهي قليلة، وغالباً ما يكون الإشكال ليس من باب اختلافهما معاً، إنما من وجه آخر من الوجوه.
والذي يظهر لي أن المشكل أعم من المختلف، ولكنه بالنظر إلى ثمرة الخلاف بين الآراء في ذلك يتضح أن هذا لا يبنى عليه كثير عمل؛ إذ النتائج تعتمد على المسميات لا على الأسماء؛ ولذلك لم نر العلماء قديماً أكثروا من الاهتمام بالتفريق أو ببيان الفروق بين مشكل الحديث، ومختلف الحديث. فالمهم عند العلماء هو رفع الإشكال، وإزالة الالتباس، سواء كان هذا الإشكال من واقع الحديث نفسه، أو من تعارضه مع حديث آخر.
وسواء كان هذا الأمر في الأحكام أو في العقائد، ومن هنا يلاحظ كل من تأمل كتاب ابن قتيبة (تأويل مختلف الحديث) أنه لم يقتصر على الأحاديث المتعارضة، وإنما اشتمل عليها وعلى غيرها من الأحاديث التي يكون إشكالها في ذاتها، وكأنه بهذا ذكر مختلف الحديث، وأراد به ما هو أعم منه، وهو المشكل، أي من باب إيراد الخاص وإرادة العام. أما الطحاوي فإنه ذكر المشكل وأراد به ما يشمل المختلف والمشكل، ويتبين هذا من خلال مقدمته التي يقول فيها: "وإني نظرت في الآثار المروية عنه صلى الله عليه وسلم بالأسانيد المقبولة، التي نقلها ذوو التثبت فيها، والأمانة عليها، وحسن الأداء لها، فوجدت فيها أشياء مما يَسْقُطُ معرفتُها والعلم بها عند أكثر الناس، فمال قلبي إلى تأملها وتبيان ما قدرت عليه من مشكلها، ومن استخراج الأحكام التي فيها، ومن نفي الإحالات عنها، وأن أجعل ذلك أبواباً أذكر في كل باب منها ما يهب الله عز وجل لي من ذلك، حتى آتي فيما قدرت عليه منها".
أهمية علم (مختلف الحديث) و(مشكل الحديث)
لا شك أن أهمية كل علم من العلوم تظهر بالنظر إلى مجاله الذي يبحث فيه، وكلما زادت حاجة الناس لهذا العلم عظمت أهميته. وعلم (مختلف الحديث) وعلم (مشكل الحديث) يبحثان في الأحاديث المشكلة، سواء كان الإشكال فيها من حيث التعارض، أو من حيث أمر آخر، ولا شك أن مثل هذه الأحاديث المشكلة هي ميدان رحب ومجال فسيح لأصحاب الفتن وأهل الأهواء من أعداء هذا الدين، الذين يحاولون دائماً وبكل ما عندهم من طاقة أن يجدوا مطعناً أو شبهة تمكنهم من النيل منه، ويصدق فيهم قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8]. ولذلك نراهم اعتمدوا اعتماداً كبيراً على مثل هذه الأحاديث التي ظاهرها التناقض أو التعارض، أو الإشكال، وجعلوها مدخلاً يدخلون به إلى آرائهم الفاسدة، ومطاعنهم الحاقدة.
ومن هنا نرى أن علماء الحديث قد اهتموا بهذا العلم أعظم الاهتمام، وسخروا أقلامهم وعقولهم في سبيل دحض مفتريات أهل الباطل، فما أن تظهر فتنة من تلك الفتن إلا ونجد العلماء يقفون في وجه أصحابها؛ امتثالاً لأمر الله تعالى، واستجابة لنداء الحق في سبيل الدفاع عن صفحة هذا الدين، لتبقى مشرقة محفوظة بحفظ الله تعالى كما قال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، وقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (يحمل هذا العلم من كل خلف عُدُوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين) رواه البزار في "مسنده".
فعلم مختلف الحديث ومشكله كما يقول السخاوي: "من أهم الأنواع، مضطر إليه جميع الطوائف من العلماء، وإنما يُكْمُل له من كان إماماً جامعاً لصناعتي الحديث والفقه، غائصاً بين المعاني الدقيقة". فمبعرفته يندفع التناقض عن كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ويطمئن المكلف إلى الأحكام.