نشأ النبي صلى الله عليه وسلم متحلياً بكل خلق كريم، مبتعداً عن كل وصف ذميم، يُضرب به المثل في حسن وعظيم الخلق، وقد عُرِفَ واشتهر في قومه من صغره وشبابه وقبل بعثته بالأخلاق الفاضلة، والشمائل الكريمة، والصفات العذبة، فكان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خُلقاً، وأصدقهم حديثاً، وأعفهم نفساً، وأوفاهم عهداً، وأشهرهم أمانة، حتى سماه قومه: "الصادق الأمين". وقد أثنى الله عز وجل عليه، ونوّه بذكر ما يتحلى به من جميل الصفات والأخلاق، فقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4)، فكل خلق محمود يليق بالإنسان فله صلوات الله وسلامه عليه منه القسط الأكبر، والحظ الأوفر، وكل وصف مذموم فهو أسلم الناس منه، وأبعدهم عنه، شهد له بذلك العدو والصديق.
ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم له من الدلائل والمعجزات الكثير، حتى قال البيهقي: "إنها بلغت ألفاً". وذكر النووي في مقدمة شرح مسلم أنها تزيد على ألف ومائتين. وهي تنقسم إلى دلائل معنوية ودلائل حِسِّية، أما الدلائل الحِسِّية: فهي كثيرة وأعظمها القرآن الكريم، ومنها: انشقاق القمر، ونبع الماء بين أصابعه، وخطابه الشجر والحجر والحيوان، وحنين الجذع وشوقه إليه، وإخباره عن الكثير من المغيبات. وأما الدلائل المعنوية: فهي أخلاقه العظيمة، وسيرته الشريفة، وأقواله وأفعاله وشريعته، إلى غير ذلك كما قال ابن تيمية: "وسيرة الرسول وأخلاقه وأقواله وأفعاله وشريعته من آياته". ومن ثم، فإن من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم عظيم أخلاقه، وجميل صفاته. والذين استدلوا بحسن خلقه صلى الله عليه وسلم على نبوته كثيرون، ومنهم:
خديجة رضي الله عنها
هي أول من استدل على صدق ونبوة النبي صلى الله عليه وسلم بما عرفته من كمال أخلاقه، وعظيمِ خلاله، فقالت له، -بعد أن رجع إليها من غار حراء خائفاً بعد نزول جبريل عليه السلام بالوحي عليه-: "كلا، والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَّل (الضعيف)، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق"، رواه البخاري، وقد قالت خديجة رضي الله عنها ذلك اعتماداً على عقلها السليم، وفطرتها الصحيحة، ومعرفتها بخُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هرقل ملك الروم
عن ابن عباس رضي الله عنه: "أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا ذهبوا إلى الشام، لأجل التجارة في المدّة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مادّ (صالح) فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه بإيليا، فدعاهم في مجلسه -وحوله عظماء الروم- ودعا بترجمانه، فقال: أيكم أقرب نسباً بهذا الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: أنا أقربهم نسباً، فقال: أدنوه مني، وقربوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم إني سائل عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه، قال أبو سفيان: فوالله لولا الحياء من أن يأثروا عليَّ كذباً لكذبت عليه، ثم كان أول ما سألني عنه أنه، قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب، قال: فهل قال هذا القول أحد منكم قط قبله؟ قلت: لا، قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا، قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم، قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟، قلت: لا، قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟، قلت: لا، قال: فهل يغدر؟، قلت: لا، ونحن منه في مدّة، لا ندري ما هو فاعل فيها، قال: ولم تمكني كلمة أُدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة، قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟، قلت الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منّا وننال منه، قال: بماذا يأمركم؟، قلت: يقول: اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة.
فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو نسب؟ فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها. وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول قبله قط؟ فذكرت أنْ لا، قلت: فلو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله. وسألتك هل كان في آبائه من ملك؟ فذكرت أنْ لا، قلت: فلو كان من آبائه من ملك، لقلت: رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أنْ لا، قلت: لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله. وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل. وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟، فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك: أيرتدّ أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك: بماذا يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف. فإن كان ما تقول حقاً، فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنّه خارج، ولم أكن أظنّ أنّه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه، لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه) رواه البخاري.
ففي هذه الحوار بين أبي سفيان وهرقل دلالة واضحة على أن مِن جملة ما استدل به هرقل على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم حسن أخلاقه، فقد قال لأبي سفيان: "وسألتك: هل يغدر؟ فذكرتَ أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك: بماذا يأمركم؟، فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق".
الجُلَنْدى ملك عُمَان
لقد انبهر الكثيرون ـالأعداء قبل الأصدقاءـ بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، التي كانت دليلاً من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، وسبباً في إسلام بعضهم، ومن هؤلاء الجُلَنْدى ملك عُمَان المعاصر للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد ذكر ابن حجر في "الإصابة" قولة الجلندى: "لقد دَلَّنِي على هذا النبي الأمي أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له، وأنه يَغْلِب فلا يَبْطَرُ، ويُغْلب فلا يهجر (لا يتلفظ بقبيح)، وأنه يفي بالعهد وينجز الوعد، وأشهد أنه نبي".
قال الغزالي: "اعلم أن من شاهد أحواله صلى الله عليه وسلم، وأصغى إلى سماع أخباره المشتملة على أخلاقه وأفعاله وأحواله وعاداته وسجاياه، وسياسته لأصناف الخلق، وهدايته إلى ضبطهم، وتألفه أصناف الخلق، وقودهم إياهم إلى طاعته مع ما يُحكَى من عجائب أجوبته في مضائق الأسئلة، وبدائع تدبيراته في مصالح الخلق، ومحاسن إشاراته في تفصيل ظاهر الشرع الذى يعجز الفقهاء والعقلاء عن إدراك أوائل دقائقها في طول أعمارهم، لم يبق له ريب ولا شك في أن ذلك لم يكن مُكتسباً بحيلة تقوم بها القوة البشرية، بل لا يتصور ذلك إلا بالاستمداد من تأييد سماوي وقوة إلهية، وأن ذلك كله لا يتصور لكذاب ولا مُلَبِسْ، بل كانت شمائله وأحواله شواهد قاطعة بصدقه، حتى أن العربي القح كان يراه فيقول: والله ما هذا وجه كذاب، فكان يشهد له بالصدق بمجرد شمائله، فكيف من شاهد أخلاقه، ومارس أحواله في جميع مصادره؟!، فأَعْظِمْ بغباوة من ينظر في أحواله، ثم في أفعاله، ثم في أخلاقه، ثم في معجزاته، ثم في استمرار شرعه إلى الآن، ثم في انتشاره في أقطار العالم، ثم في إذعان ملوك الأرض له في عصره وبعد عصره مع ضعفه ويتمه، ثم يتمارى بعد ذلك في صدقه".
وقال القاضي عياض: "وأما الأخلاق المكتسبة من الأخلاق الحميدة، والآداب الشريفة التي اتفق جميع العقلاء على تفضيل صاحبها، وتعظيم المتصف بالخلق الواحد منها فضلاً عما فوقه، وأثنى الشرع على جميعها، وأمر بها، ووعد السعادة الدائمة للمتخلق بها، ووصف بعضها بأنه جزء من أجزاء النبوة، وهي المسماة بحسن الخُلق، فجميعها قد كانت خلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم".
نعم، إنه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أفضل نبي وطئ الثرى بقدميه، الذي جعل الله عز وجل سيرته وحياته وأخلاقه ومعاملاته دليلاً من دلائل نبوته، وأثنى عل خُلُقه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4).