الشخص المناط به ولاية عمل ما أو إدارة مجال ما لا يستطيع القيام به منفرداً في أحوال كثيرة نظراً لكثرة الأعمال المناطة به وضخامتها والحاجة إلى إنجازها في وقت مناسب من غير تأخير، ومن ثم فإنه بحاجة إلى من يعاونه في ذلك أو يفوضه في بعض أمره؛ فينبغي أن يكون المعيار في اختيار المساعدين أو المعاونين في المهمة كونهم أكفاء لها: من حيث توافر الشروط الموضوعية فيهم، ومن حيث فهمهم المهمة المطلوبة وقدرتهم على تحقيق أهدافها وإحاطتهم بالصعوبات والعقبات التي تعترض سبيلهم، وقدرتهم على تخطيها واستعدادهم للعمل ضمن فريق وتفهمهم متطلبات العمل الجماعي، وتمتعهم بالقدرة الابتكارية التي تمكنهم من إيجاد خطط مبتكرة وحلول غير تقليدية للمشكلات، والتعامل بطريق حسن مفيد مع كل جديد.
اختبار المعاونين
وينبغي لمن يريد الاستعانة بآخرين أن يختبرهم حتى يعرف همتهم وأخلاقهم وكفايتهم، قال الأعرج في صفات من يستعان به: «عليه أن يستعين في الأعمال بكفاة العمال، وفي المهمات الثقال بأجلاد الرجال؛ فيفوض كل عمل إلى من قدَّمته قدم راسخة في معرفته وأيَّدته يد باسطة في درايته وتجربته، ولا يفوض عمل عالم إلى جاهل، ولا عمل بنية إلى خامل، ولا عمل متيقظ إلى غافل، ولا عمل ذي جبلة إلى عاطل، فإن غفل عن ذلك فقد باع حقاً بباطل، واعتاض عن قسى بباقل، وسلط على دولته لسان كل قائل، ومن الحكم الباهرة: من استعان في عمله بغير كفؤ أضاعه، ومن فوض أمره إلى عاجز عنه فقد أفسد أوضاعه. وليحذر كل الحذر من أن يولي أحد الخلق أمراً دينياً أو دنيوياً بشفاعة أو رعاية لحرمة أو لقضاء الحق إذا لم يكن أهلاً للولاية، ولا ناهضاً تحصل بتقليده الكفاية، فإن أحب مكافأة من هذه صفته كافأه بالمال والصلات، وقطع طمعه عما لا يصلح له من الولايات، ليكون قاضياً لحقه بماله لا بمملكته، قائماً بما لا بد منه من حقوق ولايته»[تحرير السلوك في تدبير الملوك:36].
وقال الربيع للخليفة أبي جعفر المنصور: إن لفلان حقاً، فإن رأيت أن تقضيه فتوليه ناحية. فقال: ياربيع، إن لاتصاله بنا حقاً في أموالنا لا في أعراض المسلمين ولا أموالهم.. إنا لا نولي للحرمة والرعاية، بل للاستحقاق والكفاية، ولا نؤثر ذا النسب والقرابة على ذي الدراية والكتابة، فمن كان منكم كما وصفنا شاركناه في أعمالنا، ومن كان عطلاً لم يكن لنا عذر عند الناس في توليتنا إياه، وكان العذر في تركنا له وفي خاص أموالنا ما يسعه»[نثر الدر في المحاضرات:3/ 62].
وقال ابن تيمية: (فيجب على ولي الأمر أن يولي على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح من يجده لذلك العمل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: [من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه، فقد خان الله ورسوله]. وفي رواية: [من ولى رجلاً على عصابة وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين](رواه الحاكم في صحيحه)... وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما فقد خان الله ورسوله والمسلمين». وهذا واجب عليه.. فيجب عليه البحث عن المستحقين للولايات من نوابه على الأمصار؛ من الأمراء الذين هم نواب ذي السلطان والقضاة ونحوهم، ومن أمراء الأجناد ومقدمي العساكر الصغار والكبار وولاة الأموال من الوزراء والكتاب والشادين والسعاة على الخراج والصدقات وغير ذلك من الأموال التي للمسلمين. وعلى كل واحد من هؤلاء أن يستنيب ويستعمل أصلح من يجده، وينتهي ذلك إلى أئمة الصلاة والمؤذنين والمقرئين والمعلمين وأمراء الحج والبرد والعيون الذين هم القصاد وخزان الأموال وحراس الحصون والحدادين الذين هم البوابون على الحصون والمدائن ونقباء العساكر الكبار والصغار وعرفاء القبائل والأسواق ورؤساء القرى الذين هم الدهاقون. فيجب على كل من ولي شيئاً من أمر المسلمين من هؤلاء وغيرهم أن يستعمل فيما تحت يده في كل موضع أصلح من يقدر عليه)[مجموع الفتاوى :28 /246-247].
وَعَن يزِيد بن أبي سُفْيَان قَالَ: قَالَ أَبُو بكر حِين بَعَثَنِي إِلَى الشَّام: (يَا يزِيد إِن لَك قرَابَة عَسَيْت أَن تؤثرهم بالإمارة وَذَلِكَ أَكثر مَا أَخَاف عَلَيْك، فَإِن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: [من ولي من أَمر الْمُسلمين شَيْئاً فَأمر عَلَيْهِم أحداً مُحَابَاة فَعَلَيهِ لعنة الله لَا يقبل الله مِنْهُ صرفاً وَلَا عدلاً حَتَّى يدْخلهُ جَهَنَّم، وَمن أعْطى أحداً حمى الله فقد انتهك فِي حمى الله شَيْئاً بِغَيْر حَقه، فَعَلَيهِ لعنة الله، أَو قَالَ تبرأت مِنْهُ ذمَّة الله](أخرجه أَحْمد).
المشورة وأهلها:
ويختلف عدد المعاونين بحسب اتساع العمل، فقد يختار فرداً أو فردين أو ثلاثة، وقد يختار فريقاً كاملاً للعمل.
والاستعانة قد تكون في تنفيذ العمل فقط، فيكون المعاون قائماً على التنفيذ، وقد يكون بالإدلاء بالرأي، فيكون المعاون في هذه الحالة مشيراً أو مستشاراً.
وينبغي أن يكون الأمير أو المدير ذا طبيعة تسمح لمن يعملون تحت إمارته أو إدارته بالمبادرة بعرض ما يرونه في صالح العمل ولا ينتظرون حتى يطلب منهم الاستشارة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذروة العليا من استشارة أصحابه حتى يقول أبو هريرة: [ما رأيت أحداً قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم][الترمذي]، وقال ابن خلدون: «كان صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه ويفاوضهم في مهماته العامة والخاصة، ويخص مع ذلك أبا بكر بخصوصيات أخرى، حتى كان العرب الذين عرفوا الدول وأحوالها في كسرى وقيصر والنجاشي يسمون أبا بكر وزيره... وكذا عمر مع أبي بكر، وعلي وعثمان مع عمر»[تاريخ ابن خلدون:295].
والاستشارة ينبغي أن تكون في أهلها، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته، كهولاً كانوا أو شباناً»[رواه البخاري].. والقراء: العلماء والعباد. وقال سفيان الثوري: «وليكن أهل مشورتك أهل التقوى، وأهل الأمانة، ومن يخشى الله عز وجل»[حلية الأولياء:7 /12]. وقال البخاري: «وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم»[صحيح البخاري كتاب الاعتصام]؛ لأن غير المؤتمن والجاهل الذي لا يعلم وكذلك من لا يتقي الله، لا يستشار ولا يلتفت إلى قوله.
اختيار الأصلح
وقد بيّنت سنة الرسول صلى الله عليه وسلم - كما مر - أن على الوالي أو مدير العمل أن يختار الأصلح فيمن يسند إليهم العمل، وألا يختار أحداً وفي المسلمين من هو أولى منه بذلك، قال ابن تيمية: (فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها.. فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوة؛ قدم أنفعهما لتلك الولاية وأقلهما ضرراً فيها؛ فيقدم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع وإن كان فيه فجور على الرجل الضعيف العاجز وإن كان أميناً.. كما سئل الإمام أحمد عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو وأحدهما قوي فاجر والآخر صالح ضعيف مع أيهما يغزى؟ فقال: أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، فيغزى مع القوي الفاجر. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر][متفق عليه]. وروي: [بأقوام لا خلاق لهم][رواه أحمد]. وإن لم يكن فاجراً كان أولى بإمارة الحرب ممن هو أصلح منه في الدين إذا لم يسد مسده. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل خالد بن الوليد على الحرب منذ أسلم، وقال: «إن خالداً سيف سله الله على المشركين»[مسند أحمد]. فما زال يقدمه في إمارة الحرب؛ لأنه كان أصلح في هذا الباب من غيره... وإذا كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشد قدم الأمين: مثل حفظ الأموال ونحوها، فأما استخراجها وحفظها فلا بد فيه من قوة وأمانة، فيولى عليها شاد قوي يستخرجها بقوته وكاتب أمين يحفظها بخبرته وأمانته. وكذلك في إمارة الحرب إذا أمر الأمير بمشاورة أهل العلم والدين جمع بين المصلحتين؛ وهكذا في سائر الولايات إذا لم تتم المصلحة برجل واحد جمع بين عدد؛ فلا بد من ترجيح الأصلح أو تعدد المولى إذا لم تقع الكفاية بواحد تام. ويقدم في ولاية القضاء الأعلم الأورع الأكفأ؛ فإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع قدم - فيما قد يظهر حكمه ويخاف فيه الهوى - الأورع؛ وفيما يدق حكمه ويخاف فيه الاشتباه الأعلم، ويقدمان على الأكفأ إن كان القاضي مؤيداً تأييداً تاماً من جهة والي الحرب أو العامة. ويقدم الأكفأ إن كان القضاء يحتاج إلى قوة وإعانة للقاضي أكثر من حاجته إلى مزيد العلم والورع؛ فإن القاضي المطلق يحتاج لأن يكون عالماً عادلاً قادراً. بل كذلك كل وال للمسلمين فأي صفة من هذه الصفات نقصت ظهر الخلل بسببه.
الكفاءة
والكفاءة إما بقهر ورهبة وإما بإحسان ورغبة، وفي الحقيقة فلا بد منهما. وسئل بعض العلماء: إذا لم يوجد من يولى القضاء إلا عالم فاسق أو جاهل دين فأيهما يقدم؟ فقال: إن كانت الحاجة إلى الدين أكثر لغلبة الفساد قدم الدين. وإن كانت الحاجة إلى العلم أكثر لخفاء الحكومات قدم العالم. وأكثر العلماء يقدمون ذا الدين؛ فإن الأئمة متفقون على أنه لا بد في المتولي من أن يكون عدلاً أهلاً للشهادة، واختلفوا في اشتراط العلم: هل يجب أن يكون مجتهداً أو يجوز أن يكون مقلداً أو الواجب تولية الأمثل فالأمثل كيفما تيسر؟ على ثلاثة أقوال... ومع أنه يجوز تولية غير الأهل للضرورة إذا كان أصلح الموجود، فيجب مع ذلك السعي في إصلاح الأحوال حتى يكمل في الناس ما لا بد لهم منه من أمور الولايات والإمارات ونحوها؛ كما يجب على المعسر السعي في وفاء دينه وإن كان في الحال لا يطلب منه إلا ما يقدر عليه، وكما يجب الاستعداد للجهاد بإعداد القوة ورباط الخيل في وقت سقوطه للعجز فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأهم ما في هذا الباب معرفة الأصلح، وذلك إنما يتم بمعرفة مقصود الولاية ومعرفة طريق المقصود؛ فإذا عرفت المقاصد والوسائل تم الأمر)[مجموع الفتاوى:28 /354-359].
ولكل عمل كفاءة تناسبه، قال عمر رضي الله تعالى عنه لسليط بن عمرو الأنصاري رضي الله تعالى عنه: «لولا عجلة فيك لوليتك، ولكن الحرب زبون لا يصلح لها إلا الرجل المكيث»[فتوح البلدان:1 /247].. فإمكانيات سليط الحربية تؤهله أن يتولى أمرها، لكنه رضي الله تعالى عنه كانت به - كما يقول عمر رضي الله تعالى عنه - عجلة، والحرب لا تناسبها العجلة، وإنما تحتاج إلى القائد المكيث، أي الرزين غير العجول؛ لما يترتب على العجلة في الحروب من مخاطر.
ولا يدخل السن أو المال في مفردات الكفاءة، فقد يكون الكفء فقيراً ليس غنياً، وهذا ظاهر، لكن الذي قد لا يتصور كثير من الناس حصوله وجود الكفاءة مع حداثة السن، والثابت من كثير من الوقائع أنه لا تلازم بين الكفاءة وكبر السن، فقد ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم شباباً حديثي السن ولايات كبيرة وكان تحتهم أشياخ كبار؛ كما ولى أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما وهو شاب حدث السن لا يتجاوز العشرين إمرة جيش كان فيه أمثال أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه. وقد أمّر عثمان بن أبي العاص على ثقيف، وكان أصغرهم، لما رأى من حرصه على الإسلام والتفقه في الدين، قال يوسف بن الماجشون: (قال لنا ابن شهاب أنا وابن أخي، وابن عم لي، ونحن غلمان أحداث، نسأله عن الحديث: «لا تحقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم، فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم، يبتغي حدة عقولهم»[جامع بيان العلم وفضله: 1 /364].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:: مجلة البيان العدد 329