لما علم المشركون في مكة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أصبح له أتباع وأنصار من أهل المدينة يفدونه بأنفسهم وأهليهم وأولادهم بعد بيعة العقبة، وأن أصحابه من المهاجرين قد أمسوا بدار أمان بعد أن هاجروا إليها، اجتمع أشرافهم ورؤساؤهم في دار الندوة، ليتخذوا قراراً في شأن القضاء على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودعوته الجديدة .
وقد روي ابن هشام وابن إسحاق وابن كثير ما دار من حوارٍ بين المشركين في هذا الاجتماع، عن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال :
( أن نفرا من قريش من أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل، فلما رأوه قالوا له: من أنت؟ قال: شيخ من أهل نجد، سمعت أنكم اجتمعتم، فأردت أن أحضركم، ولن يعدمكم رأيي ونصحي، قالوا: أجل، ادخل، فدخل معهم فقال: انظروا في شأن هذا الرجل!، والله ليوشكن أن يواثبكم في أمركم بأمره، فقال قائل منهم: احبسوه في وثاق، ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء، زهير والنابغة، إنما هو كأحدهم، قال فصرخ عدو الله، الشيخ النجدي، فقال: والله ما هذا لكم برأي، والله ليخرجنه ربه من محبسه إلى أصحابه، فليوشكُن أن يثبوا عليه، حتى يأخذوه من أيديكم، فيمنعوه منكم، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم، قالوا: صدق الشيخ، فانظروا في غير هذا، قال قائل منهم: أخرجوه من بين أظهركم، فتستريحوا منه، فانه إذا خرج لن يضركم ما صنع، وأين وقع، إذا غاب عنكم أذاه، واسترحتم، وكان أمره في غيركم، فقال الشيخ النجدي: والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حلاوة قوله، وطلاقة لسانه، وأخذ القلوب ما تسمع من حديثه؟، والله لئن فعلتم ثم استعرض العرب ليجتمعُن عليه، ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم، ويقتل أشرافكم، قالوا: صدق والله، فانظروا رأيا غير هذا، قال: فقال أبو جهل، لعنه الله: والله لأشيرن عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه بعد، لا أرى غيره، قالوا: وما هو؟، قال: تأخذون من كل قبيلة غلاما شاباً وسيطا نهدا، ثم يُعطى كل غلام منهم سيفا صارما، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فاذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها، فما أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها، فإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل واسترحنا، وقطعنا عنا أذاه، قال: فقال الشيخ النجدي: هذا والله الرأي، القول ما قال الفتى، لا أرى غيره، قال: فتفرقوا على ذلك، وهم مجمعون له، فأتى جبريلُ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه، وأخبره بمكر القوم، فلم يبت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بيته تلك الليلة، وأذن الله له عند ذلك بالخروج، وأنزل الله عليه بعد قدومه المدينة الأنفال، يذكر نعمه عليه، وبلاءه عنده: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }(الأنفال الآية:30) ) .
وروى البيهقي في دلائل النبوة: ( وأقام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينتظر أمر الله حتى إذا اجتمعت قريش فمكرت به وأرادوا به ما أرادوا أتاه جبريل ـ عليه السلام ـ، فأمره أن لا يبيت في مكانه الذي كان يبيت فيه، دعا رسول اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ علي بن أبي طالب، فأمره أن يبيت على فراشه، ويتسجى ببرد له أخضر ففعل، ثم خرج رسول اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ على القوم وهم على بابه، وخرج معه بحفنة من تراب فجعل يذرها على رءوسهم، وأخذ الله ـ عز وجل ـ بأبصارهم عن نبيه وهو يقرأ : { يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ }(يس الآية: 1: 2)، إلى قوله -: { فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ }(يس: من الآية: 9 )، ثم قال البيهقي: " ورُوِيَ عن عكرمة ما يؤكد هذا " .
وتتحدث عائشة - رضي الله عنها - عن بداية الهجرة النبوية فتقول: ( كان لا يخطئ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة وإما عشية، حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الهجرة، والخروج من مكة من بين ظهري قومه، أتانا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالهاجرة (الظهيرة في شدة الحر)، في ساعة كان لا يأتي فيها، قالت: فلما رآه أبو بكر قال: ما جاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه الساعة إلا لأمر حدث، قالت: فلما دخل، تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أخرج عني من عندك، فقال: يا رسول الله إنما هما ابنتاي، وما ذاك، فداك أبي وأمي!، فقال: إنه قد أذن لي في الخروج والهجرة، قالت: فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله؟، قال: الصحبة، قالت: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أحدًا يبكي من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ، ثم قال: يا نبي الله، إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا، فاستأجرا عبد الله بن أريقط رجلاً من بني الديل بن بكر، وكانت أمه امرأة من بني سهم بن عمرو، وكان مشركًا يدلهما على الطريق، فدفعا إليه راحلتيهما فكانتا عنده يرعاها لميعادهما ) .
على طريق الهجرة النبوية دروس كثيرة منها : البذل والتضحية، والصداقة والصحبة، وحب أبي بكر للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، والله ينصر من ينصره، ومنها كذلك: التوكل على الله مع الأخذ بالأسباب .
فالمتأمِّل في أحداث الهجرة منذ لحظة خروج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من بيته إلى صاحبه أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ، ومُروراً بأحداث الطريق والسَّفر، يجد فيها معاني التوكل واليقين، مع الأخذ بالأسباب وإعداد العدة .
الأخذ بالأسباب وإعداد العدة :
- الصاحب : منذ أن أخبر أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رغبته في الهجرة، كانت الإشارة النبوية ( على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي ) فحبس أبو بكر نفسه على صحبة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ـ التوقيت : جاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى بيت أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ في وقت شديد الحر، وهو الوقت الذي لا يخرج فيه أحد، وجاء مُقنعاً قد أخفى وجهه .
ـ الوسيلة : شراء البعيرين وعلفهما:،وهما وسيلة السير والهجرة .
ـ الكتمان : أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبا بكر أن يُخرِج مَنْ عنده، ولما تكلم لم يبين إلا الأمر بالهجرة دون تحديد الاتجاه، محافظة على الكتمان، وكان الخروج ليلاً ومن باب خلفي في بيت أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ لاحتمالات المراقبة من العدو .
ـ الاحتياط : بلغ الاحتياط مداه من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ باتخاذه طرق غير مألوفة لقريش، فلم تكن الهجرة مباشرة إلى اتجاه المدينة، إنما اختار طريقا آخر، وهو طريق الساحل للتمويه على المشركين .
ـ دليل السير : عبد الله بن أريقط كان دليل الهجرة الأمين، وخبير الصحراء البصير، الذي يعرف مسالك البادية وطرق الصحراء، ومع كونه مشركاً لكنه كان موضعا للثقة، مثل العباس بن عبد المطلب حين حضر أهم بيعة في التاريخ النبوي رغم عدم إسلامه حينئذ، فكان اختيار عبد الله بن أريقط لهذه المهمة عن قصد لخبرته وفطنته .
ـ التورية والمعاريض : كان أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ إذا قابل أحدا في الطريق ـ وكان معروفا لهم ـ وسأله عمن معه، قال: " هذا الرجل يهديني السبيل "، فعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: ( أقبل نبي الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ يُعرف، ونبي الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شاب لا يعرف، قال: فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر من هذا الرجل الذي بين يديك؟، فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل، قال: فيحسب الحاسب أنه إنما يعني الطريق وإنما يعني سبيل الخير ) رواه البخاري .
فلما كان أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ يعلم أن الكذب ذنب عظيم وكبيرة من كبائر الذنوب، وكانت هنالك حاجة لإخفاء الحقيقة لجأ إلى استخدام المعاريض لأن في المعاريض مندوحة عن الكذب، فلا يقع الكذب، وتقع التورية، ويتم الكتمان التام على الأمر حرصاً على إنجاحه.
ـ حسن اختيار الأشخاص : أحسن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اختيار الأشخاص المساعدين في الهجرة، فانتقى شخصيات عاقلة أمينة لتقوم بالمعاونة في شؤون الهجرة، مع وضع كل فرد في عمله المناسب، الذي يجيد القيام به على أحسن وجه ليكون أقدر على أدائه والنهوض بتبعاته، فعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه -: ينام في فراش النبي ـ صلى الله عليه ـ وسلم ليخدع قريش، وعبد الله بن أبي بكر: كاشف تحركات قريش، وأسماء ذات النطاقين: حاملة الزاد من مكة إلى الغار، وعامر بن فهيرة: الراعي يبدد آثار أقدام السير بأغنامه، كيلا يتتبعها المشركون .. فهذا تدبير للأمور على نحو دقيق وأسلوب حكيم، ووضع لكل فردٍ من أفراد الهجرة في مكانه المناسب .
اليقين والتوكل على الله :
إذا كان الأخذ بالأسباب وإعداد العُدة أمراً ضرورياً وواجباً، فإن ذلك لا يعني ولا يقتضي دائماً حصول النتيجة المرجوة، وذلك لأن النتيجة تتعلق بأمر الله ومشيئته، ومن ثم فقد وقعت حادثتان مشهورتان أثناء الهجرة، كان يمكن أن يكون بهما إحباط الخطة والهجرة، وظهر فيهما حسن توكل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ربه، ويقينه التام بحفظ الله ونصره له، وكانت الحادثة الأولى: وصول المشركين للغار، فقال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: ( لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا!، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) رواه البخاري .
والحادثة الثانية، يوم أدركهم سراقة بن مالك وهو يريد قتل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليحصل على جائزة ومكافأة قريش على ذلك، فساخت قوائم فرسه في الأرض حتى أيقن بالهلاك هو وفرسه، فعاد مرة أخرى وامتطى فرسه وانطلق فسقط مرة ثانيةً، ويصف أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ ما حدث مع سراقة فيقول: ( فارتحلنا بعد ما مالت الشمس وأتبعنا سراقة بن مالك، فقلت : أُتينا يا رسول الله ، فقال : لا تحزن إن الله معنا ، فدعا عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فارتطمت به فرسه إلى بطنها ، فقال : إني أراكما قد دعوتما عليَّ، فادعوَا لي، فالله لكما أن أرد عنكما الطلب، فدعا له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنجا، فجعل لا يلقى أحدا إلا قال: كفيتكم ما هنا، فلا يلقى أحدا إلا رده، قال: ووفَّى لنا ) رواه البخاري، قال أنس: " فكان سراقة أول النهار جاهدا (مبالغا في البحث والأذى)على نبي الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وكان آخرَ النهار مَسْلَحةً له (حارسا له بسلاحه) ".
قال الشيخ ابن عثيمين: " فقال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى قدميه لأبصَرَنا، لأننا في الغار تحته، فقال: ( ما ظنُّكَ باثْنَينِ اللهُ ثالثُهُما )، وفي كتاب الله أنه قال: { لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا }(التوبة من الآية:40)، فيكون قال الأمرين كلاهما، أي: قال: ( ما ظنُّكَ باثْنَيْنِ اللهُ ثالثُهُما )، وقال: { لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا }، فقوله: ( ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) يعني: هل أحد يقدر عليهما بأذية أو غير ذلك؟، والجواب: لا أحد يقدر، لأنه لا مانع لما أعطى الله، ولا معطي لما منع، ولا مذل لمن أعزَّ، ولا معز لمن أذل: { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }(آل عمران الآية: 26)، وفي هذه القصة: دليل على كمال توكل ـ النبي صلى الله عليه وسلم ـ على ربه، وأنه معتمد عليه، ومفوض إليه أمره، وهذا هو الشاهد من وضع هذا الحديث في باب اليقين والتوكل " .
فائدة : اعقلها وتوكل :
التوكل على الله لا ينافي أو يتعارض مع الأخذ بالأسباب، فقد شاء الله تعالى أن تكون الهجرة النبوية جامعة للتوكل على الله والأخذ بالأسباب وإعداد العدة، وذلك هو هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسنته في حياته كلها، فعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ: ( أن رجلا جاء إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأراد أن يترك ناقته، وقال: أأعقلها وأتوكل؟، أو أطلقها وأتوكل؟!، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : اعقلها، وتوكل ) رواه الترمذي وحسنه الألباني .
قال ابن تيمية: " الالتفات إلى الأسباب واعتبارها مؤثرة في المسببات شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب المأمور بها قدح في الشرع ".
لم تكن الهجرة النبوية مجرد نجاة من عدو، بل كانت حدثا فاصلاً بين مرحلتين من مراحل الدعوة الإسلامية، هما المرحلة المكية والمرحلة المدنية، وقد بدأ التأريخ الهجري أو (التقويم الهجري) عند المسلمين انطلاقا من عام الهجرة النبوية من مكة إلى يثرب التي أصبحت بعد ذلك تسمى المدينة المنورة، وذلك لأهمية هذا الحدث ..
ودروس الهجرة النبوية كثيرة ومستمرة ولا ينقطع أثرها, وتتوارثها الأجيال جيلاً بعد جيل، ومن هذه الدروس : ( اعقلها وتوكل ) .