ذُكر لفظ (اللغو) في مواضع من القرآن الكريم، وأريد به معاني مختلفة على حسب الأحوال التي خرج عليها الكلام. نبدأ بتحرير المعنى اللغوي لهذا اللفظ، ثم ننعطف لذكر معانيه التي ورد عليها في القرآن.
(اللغو) في أصل اللغة يدل على أمرين: أحدهما: يدل على الشيء لا يُعتد به. والآخر: يدل على اللهج بالشيء.
فالأول: (اللغو) ما لا يُعتد به من أولاد الإبل في الدية، يقال منه: لغا يلغو لغواً، ومنه لغو اليمين؛ سمي بذلك لأنه كلام لا يُعتد به. قال الشاعر:
ولست بمأخوذ بلغو تقوله إذا لم تعمد عاقدات العزائم
وفي الحديث: (إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت -والإمام يخطب- فقد لغوت) متفق عليه.
والثاني: قولهم: لغى بالأمر، إذا لهج به. ويقال: إن اشتقاق اللغة منه، أي: يلهج صاحبها بها.
وقال أبو هلال العسكري: أصل اللغو الصوت، وسواء كان له معنى، أو لم يكن بمعنى، ثم سمي ما يُتكلم به كل جيل لغة، وأصلها لغوة، ثم قالوا: لغو الطائر، ثم لما رأوا ذلك صوتاً لا معنى له، جعلوه أصلاً في كل شيء لا معنى له، فقالوا: لغى فلان يلغو: إذا تكلم بكلام لا معنى له، ثم سموا المـُسْقَط الملغي لغواً؛ لأنه في سبب ما لا معنى له، وقيل: ألغيت الشيء إذا أسقطته. ثم سموا الباطل لغواً، تشبيهاً بالمـُسْقَط الملغي؛ لأن الباطل يسقط مع الحق؛ فلا يكون له ثبات، ويقال للفحش: لغو؛ لأنه ساقط من الكلام مطرح، لا يُلتفت إليه.
ويجوز أن تكون (اللغة) من قولهم: لغى بالأمر يلغي إذا لهج به لهج العصفور بلغاه، أي: بصوته.
وحاصل كلام أهل اللغة في معنى (اللغو) أنه الكلام الذي لا فائدة فيه، وهو الذي يورد لا عن روية وفكر، فيجري مجرى اللغا، وهو صوت العصافير ونحوها من الطيور.
ولفظ (اللغو) ورد في القرآن الكريم في أحد عشر موضعاً؛ جاء في عشرة منها بصيغة الاسم، من ذلك قوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} (البقرة:225)، وهو أول موضع ورد فيه هذا اللفظ في القرآن الكريم. وجاء بصيغة الفعل في موضع واحد، وهو قوله تعالى: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه} (فصلت:26).
ولفظ (اللغو) ورد في القرآن الكريم على ثلاثة معان:
الأول: اللغو بمعنى القول الباطل، من ذلك قوله تعالى: {وإذا مروا باللغو مروا كراما} (الفرقان:72)، أي: إذا مروا بالباطل فسمعوه، أو رأوه، أعرضوا عنه، ولم يلتفتوا إليه. و(الباطل) كل كلام، أو فعل لا حقيقة له ولا أصل، أو ما يستقبح من الأقوال والأفعال. ونظير هذا قوله تعالى: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه} (القصص:55)، قال الطبري: هو الباطل من القول. وقال القرطبي: "أي: إذا سمعوا ما قال لهم المشركون من الأذى والشتم أعرضوا عنه، ولم يشتغلوا به". ومن هذا القبيل قوله سبحانه: {لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما} (الواقعة:25)، قال الطبري: "لا يسمعون فيها باطلاً من القول. ومن هذا أيضاً قوله عز وجل: {يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم} (الطور:23)، قال الطبري: "لا باطل في الجنة". وأكثر ما جاء لفظ (اللغو) في القرآن وفق هذا المعنى.
الثاني: اللغو بمعنى اليمين التي لا يعقد عليها القلب، وإنما تخرج من اللسان من غير قصد ولا تعمد، وعلى هذا قول الله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} (البقرة:225)، قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو قول الرجل في دَرْج كلامه واستعجاله في المحاورة: لا والله، وبلى والله، دون قصد لليمين. و(اللغو) بهذا المعنى ورد في القرآن في موضعين: الأول في سورة البقرة وهي الآية التي مثلنا فيها، والثاني في سورة المائدة الآية التاسعة والثمانون.
الثالث: اللغو بمعنى مكروه الكلام والساقط منه، وعلى هذا قوله سبحانه: {لا تسمع فيها لاغية} (الغاشية:11)، أي: لا تسمع في الجنة كلاماً ساقطاً غير مرضي. و(اللاغية) مصدر مثل العافية، والعاقبة.
على أنه روي عن بعض التابعين تفسير (اللغو) بـ (الشرك) و(الكفر)، كالمروي عن الضحاك في تفسير قوله تعالى: {والذين هم عن اللغو معرضون} (المؤمنون:3)، قال: إن اللغو هنا الشرك. وروي عن الحسن البصري أن المراد بـ (اللغو) في الآية هنا المعاصي كلها. وهو قول جامع.
وحاصل القول: إن لفظ (اللغو) في القرآن الكريم ورد أكثر ما ورد بمعنى القول الباطل، وورد بدرجة أقل بمعنى اليمين التي لا يؤخذ بها العبد، وورد بمعنى الكلام المكروه، وفسره بعضهم بمعنى الكفر والشرك، وأكثر هذه المعاني يتداخل بعضها ببعض، ويحتمل لفظ (اللغو) في بعض مواضع وروده أكثر من معنى.