رغم تعدد مظاهر الفساد التي تستعص على الحصر إلا أنها تشترك في بيئة مستنبتة واحدة هي «البيئة الفاسدة» .. تلك البيئة التي تتسم بالعديد من الصفات وإن تغير زمانها ومكانها .. بيئة الفساد نوع خبيث من الأجواء التي تكره التنمية والبناء والانضباط والالتزام بمعايير الجودة والأطر الأخلاقية والعلمية والدينية .. بيئة تنتج الشر والضر، وتروج له، وتبرر موقفه ومسيرته، وتتستر عليه، بل وتحميه أحيانا .. بيئة نفعية لطغمة شريرة آثرت حظوظ نفسها على حظ أمتها ومجتمعاتها .. بيئة لا تألوا جهدا في ترويض المجتمع والمؤسسات لاستساغة الفساد والصمت عليه، وتجعل من الفاسدين أقلية صارخة صوتها أعلى من الجميع .. بيئة تغتال الحاضر والمستقبل، وتوقف عجلة الحياة، وتطمس بريق الأمل، وتمسخ الإرادة التي لا ترغب في التحرر من قيود الفشل .. بيئة خطيرة خطرا أفظع من خطر الفاسدين أنفسهم، لأن الفاسد يذهب وإن طال عهده، أما بيئة الفساد فباقية تنتج ألف فاسد غيره.
«الانفلات» هو أهم مظاهر البيئة الفاسدة .. الانفلات من حدود القوانين والنظم، وحدود القيم والدين .. وهذا الانفلات يورث المحسوبية والامتيازات الخاصة، ويولد في المجتمع شريحة من الأباطرة التي أشبه ما تكون بأسراب الجراد الذي يأتي على الأخضر واليابس، وتترك المجتمعات قفرا لا تجد فيها الطبقة الكادحة سوى المعاناة والضنك.
وهذه النخبة الملوثة أخبث مكون في البيئة الفاسدة لأنها تملك زمام القيادة، وتستحوذ على رأس المال وقنوات الفكر والإعلام والتوجيه، وهي لا تتقن فيما بينها سوى الصراع على السلطة واللذة والمتعة، ولا يتحد أفرادها إلا من أجل الحفاظ على ديمومة بيئتهم النتنة واستحمار السذج الذين يعيشون على كدهم ودمائهم.
والناس في البيئة الفاسدة بقايا بشر أو مسخ بشري غريب، يستمرئ الباطل وينفر من الحق، يعشق الظلام ويكره النور، منكوس الفطرة والذوق .. يقول الشيخ محمد الغزالي: "والبيئة الفاسدة خطر شديد على الفطرة، فهي تمسخها وتشرد بها، وتخلف فيها من العلل ما يجعلها تعاف العذب وتستسيغ الفج، وذلك سر انصراف فريق من الناس عن الإيمان والصلاح، وقبولهم الكفر والشرك، مع منافاة ذلك لمنطق العقل، وضرورات الفكر وأصل الخلقة" [عقيدة المسلم: ص 198]
في البيئة الفاسدة تروج مصطلحات الإلحاد والفوضى الجنسية والإدمان والرشوة والطائفية والعنصرية .. وغيرها مما حوته قواميس العفن الفكري والسلوكي، وصراع البيئة الفاسدة مع أهل الحق والطهر صراع أزلي حامي الوطيس، حيث يكون أهل الإنصاف كالنبتة الطيبة لكنها نشاز وسط غابات الحنظل، لذلك تتعالى الأصوات الغوغائية بالإقصاء والاستئصال، كما في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم:13] فهذا توعد من الكفار للرسل بالإخراج من أرضهم والنفي من بين أظهرهم إن لم يتركوا ما جاءوا به من نور الوحي وهداية السماء.
وفي آيات أخر تفصيل لهذا الصراع الإقصائي، كقوله من قوم شعيب: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ} [الأعراف: 88-89]، وقوله عن قوم لوط: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56] وقوله عن مشركي قريش: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء:76]، وقوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، إلى غير ذلك من الآيات.
أما الحرب النفسية والإعلامية وحملات التشويه والتسفيه، فحدث ولا حرج .. قال تعالى: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف:82]، قال ابن عباس: عابوهم بما يمدح به.
قال ابن عاشور: والتطهر تكلف الطهارة. وحقيقتها النظافة، وتطلق الطهارة مجازا على تزكية النفس والحذر من الرذائل وهي المراد هنا، وتلك صفة كمال، لكن القوم لما تمردوا على الفسوق كانوا يعدون الكمال منافرا لطباعهم، فلا يطيقون معاشرة أهل الكمال، ويذمون ما لهم من الكمالات فيسمونها ثقلا ، ولذا وصفوا تنزه لوط عليه السلام وآله تطهرا، بصيغة التكلف والتصنع، ويجوز أن يكون حكاية لما في كلامهم من التهكم بلوط عليه السلام وآله، وهذا من قلب الحقائق لأجل مشايعة العوائد الذميمة. [التحرير والتنوير:8/182]
وقال تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران:212] {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاء لَضَالُّونَ} [المطففين:29-32] وهذه أعجب .. فليس أعجب من أن يتحدث هؤلاء الفجار المجرمون عن الهدى والضلال. وأن يزعموا حين يرون المؤمنين، أن المؤمنين ضالون. ويشيروا إليهم مؤكدين لهذا الوصف في تشهير وتحقير: {إن هؤلاء لضالون!} .. والفجور لا يقف عند حد، ولا يستحيي من قول، ولا يتلوم من فعل. واتهام المؤمنين بأنهم ضالون حين يوجهه الفجار المجرمون، إنما يمثل الفجور في طبيعته التي هي تجاوز لجميع الحدود! [في ظلال القرآن:7/491]
وقال تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38]
ومن ابتلي من أهل الصلاح ببيئة فاسدة فإنه يتوجب عليه القيام بحق الله تعالى فيهم من النصيحة والموعظة الحسنة والجدال بالحسنى وتقديم النموذج العملي المثالي في نفسه قدر المستطاع، فهذا من شأنه أن يبني في ذاته حائط صد يمنعه من الانجراف إلى هاوية الفساد وأهله، ويلغي تأثير تلك البيئة وتجاذبها لكل أفرادها، ثم هو بسلوكه الإصلاحي يعمل على كبح تمادي الفساد على أقل الأحوال، ناهيك عن إمكانية استجابة الكل أو البعض للخير، وهذا من حظ العبد أن يجعله الله تعالى هاديا مهديا.