الإيمان سكينة واطمئنان، والمعصية جحود وشرود، فالمؤمن قلبه معلق بالسماء، والعاصي تائه في ضروب الأرض، حُرم التوفيق بشؤم معاصيه، فعن عطاء الخراساني، قال: لقيت وهب بن منبه في الطريق، فقلت: حدثني حديثا أحفظه عنك في مقامي وأوجز، قال: " أوحى الله إلى داود: يا داود، أما وعزتي وعظمتي، لا يشعر بي عبد من عبادي دون خلقي، أعلم ذلك من نيته، فتكيده السموات السبع ومن فيهن، والأرضون السبع ومن فيهن، إلا جعلت له منهن فرجا ومخرجا، أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني، أعلم ذلك من نيته، إلا قطعت أسباب السموات من يده، وأرضخت الأرض من تحته، ولا أبالي في أي واد هلك " [حلية الأولياء: 4/25]
والعاصي تألف نفسه المعاصي فلا فكاك له من ظلماتها، لا تردعه بلوى ولا تغسله محنة ولا يعتبر بغيره ولا يتعظ بتفلت عمره ودنو أجله، يشيب الرأس وينحني الظهر والقلب والجوارح لا يفارقها خبثها ولا تتطهر من درنها، أما المؤمن فهو أواب منيب، لو سقط في شرك الخطيئة سرعان ما يعود إلى واحة الإيمان، شعاره دوما: «لك العتبى حتى ترضى» .. قد انصبغت نفسه بصبغة الإيمان الدائمة التي لا يعتريها زوال ولا يغسلها طول الأيام.
قال تعالى: {صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} [البقرة:138]
«صبغة الله» .. قال ابن عباس: دين الله، وإنما سماه صبغة لأنه يظهر أثر الدين على المتدين كما يظهر أثر الصبغ على الثوب، وقيل لأن المتدين يلزمه ولا يفارقه، كالصبغ يلزم الثوب، وقال مجاهد: فطرة الله، وهو قريب من الأول، وقيل: سنة الله، وقيل: أراد به الختان لأنه يصبغ صاحبه بالدم، قال ابن عباس: هي أن النصارى إذا ولد لأحدهم ولد فأتى عليه سبعة أيام غمسوه في ماء لهم أصفر يقال له المعمودي وصبغوه به ليطهروه بذلك الماء مكان الختان، فإذا فعلوا به ذلك قالوا: الآن صار نصرانياً حقاً فأخبر الله أن دينه الإسلام لا ما يفعله النصارى. [تفسير البغوي]
وقال السعدي –رحمه الله- في تفسيره: أي: الزموا صبغة الله، وهو دينه، وقوموا به قياما تاما، بجميع أعماله الظاهرة والباطنة، وجميع عقائده في جميع الأوقات، حتى يكون لكم صبغة، وصفة من صفاتكم، فإذا كان صفة من صفاتكم، أوجب ذلك لكم الانقياد لأوامره، طوعا واختيارا ومحبة، وصار الدين طبيعة لكم بمنزلة الصبغ التام للثوب الذي صار له صفة، فحصلت لكم السعادة الدنيوية والأخروية، لحث الدين على مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ومعالي الأمور، فلهذا قال - على سبيل التعجب المتقرر للعقول الزكية-: { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً } أي: لا أحسن صبغة من صبغته.
يقول الشيخ فيصل الجاسم: "والدين القويم يُكسب القلب والقول والعمل صِبغة خاصة تظهر على كل من التزمه وسلكه، فترى السالك لهذا الصراط اعتقاداته وأقواله وأفعاله على وفق مراد الله تعالى ومحابه، كما جاء في الحديث الصحيح «فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي».
وهذه الصِّبغة فيها معنى التميّز، فيتميز المصطبغ بها عمن خالف الصراط المستقيم بحسب مخالفته، بحيث لا تلتبس معرفة المصطبغ بها، ولا يُخلط ويُلحق بغيره من أهل الانحراف لتميّزه. وهذا التميز منه ما تضفيه الصِّبغة على صاحبها ولا بد، ومنه ما هو من لوازمها كمخالفة المشركين وأهل الضلال والبدع ومجانبتهم وترك مخالطتهم".
والإيمان زينة لصاحبه في الدنيا والآخرة؛ ولن يبدو صاحبه جميلاً بدونه، وهذه الزينة يهبها الله تعالى لمن يشاء من عباده، ويضاعفها عليهم، ويقذفها في قلوبهم، قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [الحجرات:7-8] فزينة الإيمان هي أعلى زينة وأتم زينة.
وفي بيان معان من هذه الزينة يقول عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: "إن للحسنة ضياءا في الوجه ونورا في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق".
روى ابن أبي شيبة في كتاب الإيمان عن معاوية ابن قرة عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أنه كان يدعو: «اللهم إني أسألك إيماناً دائماً، وعلماً نافعاً، وهدياً قيماً»، وقال معاوية ابن قرة معلقا: فإن من الإيمان ما ليس بدائم، ومن العلم ما ليس بنافع، ومن الهدي ما ليس بقيم.
{قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].