في جمادى الآخرة من العام الثامن من الهجرة النبوية، بلغ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن جمعا من قضاعة يتجمعون في ديارهم وراء وادي القرى ليغيروا على المدينة المنورة، فأرسل لهم عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ في ثلاثمائة من المسلمين، فلما صار إلى هناك خاف كثرة عدوه، فبعث إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستمده، فأرسل له أبا بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ في مائتين من المهاجرين، وأمّر عليهم أبا عبيدة بن الجراح ـ رضي الله عنه ـ وقال له: ( إذا أنت قدمت على صاحبك فتطاوعا ولا تختلفا ) .
وسار عمرو ـ رضي الله عنه ـ فكان كلما انتهى إلى موضع به جمع تفرّقوا حتى انتهى إلى بلاد بلي وعذرة، فلقي جمعا ليس بالكثير، فاقتتلوا ساعة وتراموا بالنبل، وحمل عليهم المسلمون فهزموا وتفرقوا، وأوغلوا هربا في البلاد، ثم عاد المسلمون منتصرين بعد أن أروهم قوة الإسلام وعزته .
وفي طريق العودة أصيب عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ بجنابة من أثر احتلام، فتيمم وصلّى بأصحابه، فلما قدموا على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سألهم عن أحوالهم في سريتهم، فأخبروه بما كان من أمر عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ واحتلامه، وتيممه وصلاته من غير اغتسال، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( يا عمرو، صليتَ بأصحابك وأنت جُنب؟!، قال: قلتُ: نعم يا رسول الله، إنِّي احتلمتُ في ليلةٍ باردةٍ شديدةِ البرد، فأشفقتُ إنِ اغتسلتُ أن أَهْلَكَ (أموت)، وذكرتُ قولَ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ: { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا }(النساء الآية: 29)، فتيمَّمتُ ثم صلَّيتُ، فضحكَ رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يَقُلْ شيئًا ) رواه أبو داود .
إن موقف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وضحكه من فعل عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ في غزوة ذات السلاسل فيه من الفوائد الكثير، ومنها :
ـ استنبط العلماء من ضحك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إقراره لفعل عمرو ـ رضي الله عنه ـ: أن التيمم يقوم مقام الغسل بالنسبة للجنب مع وجود الماء إذا خشي أن يؤدي استخدام الماء إلى الضرر، فلقد تيمم عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ لما أصبح جنباً مع وجود الماء معه وصلَّى بأصحابه، وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكر عليه ذلك الفعل .
وقد ذكر البخاري هذا الموقف في صحيحه وبوب عليه في كتاب التيمم: " باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض، أو الموت، أو خاف العطش تيمم " .
ـ جواز الاجتهاد في عهده ـ صلى الله عليه وسلم ـ: فقد اجتهد عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ خوفا على نفسه من الضرر، اعتمادًا على قول الله تعالى: { وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا }(النساء الآية: 29)، ولم ينكر عليه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ اجتهاده، بل أقره على أمرين: الأول: جواز الاجتهاد، والثاني صحة اجتهاده .
قال ابن حجر: " وفي هذا الحديث جواز التيمم لمن يتوقع من استعمال الماء الهلاك، سواء كان لأجل برد أو غيره، وجواز صلاة المتيمم بالمتوضئين، وجواز الاجتهاد في زمن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ " .
- من الأسباب المبيحة للتيمم تعذر استخدام الماء وإن وجد، وجواز إمامة المتيمم بالمتوضئ، فقد صلى عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ وهو متيمم إمامًا بأصحابه المتوضئين، وأقره الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ذلك ولم ينكر عليه.
وفي شرح سنن أبي داود: " ويستفادُ من الحديث فوائدُ، الأولى: جواز التيمم للمسافر الذي يخاف البرد، وإن كان يجد الماء .. ، والثانية: عدم إعادة الصلاة التي صلاها بالتيمم في هذه الحالة، وهو حجة على من يأمر بالإعادة، لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يأمره بالإعادة لا صريحاً ولا دلالة، والثالثة: جواز الاجتهاد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم ـ في غيبته، وهو مذهب بعض الأصوليين " .
ـ صحة اجتهاد عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ يدل على فقهه ووفور عقله، ودقة استنباطه الحُكم من دليله، ويظهر ذلك في سرعة أخذه ـ رضي الله عنه ـ للقرآن الكريم وصلته به وحفظه له، حتى بات قادرًا على فقه الأمور والأحكام من خلال الآيات القرآنية، رغم أنه لم يمض على إسلامه سوى أربعة أشهر .
إن مواقف ضحك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حياته وسيرته متعددة ومتنوعة، وفيها الكثير من الفوائد والعبر، فكثيرًا ما كانت تبدو على وجه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ابتسامة الرضا، ومن هذه الضحكات ما كان مع أحد أصحابه ممازحاً ومتلطفا، ومنها ما كان مع الأعراب الغلاظ الشداد ليشعرهم بالسعة والرحمة التي جاء بها الإسلام، وأن الدين فيه فسحة ورفق، ومنها ما كان مع عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ مقرا لما فعله في سرية ذات السلاسل .