اتخذ المشركون العديد من الوسائل والأساليب لمحاربة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والقضاء على دينه ودعوته، وكانت إحدى هذه الوسائل تلك الحرب الإعلامية التي شنتها قريش عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمحاولة تشويه دينه ودعوته، والتي كانت سببًا في تتبع بعض الباحثين عن الحق لأخبار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ومحاولة التعرف على الدين الجديد الذي جاء به، وكان من هؤلاء عمرو بن عبسة ـ رضي الله عنه ـ، فقد كان من الحنفاء المنكرين لعبادة غير الله ـ تعالى ـ في الجاهلية .
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: " عمرو بن عبسة بن خالد بن حذيفة، أبو نجيح السلمي البجلي، أحد السابقين، ومن كان يقال هو ربع الإسلام " .
وقال عمرو بن عبسة عن نفسه: " لقد رأيتني وأنا ربع الإسلام "، قال ابن كثير في البداية والنهاية: " فلعله أخبر أنه ربع الإسلام بحسب علمه، فإن المؤمنين كانوا إذ ذاك يستسرون بإسلامهم، لا يطلع على أمرهم كثير أحد من قراباتهم " .
وقد أخرج مسلم في صحيحه قصة إسلام عمرو بن عبسة ـ رضي الله عنه ـ وسؤاله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أشياء من أمور الصلاة وغيرها .
ويحدثنا عمرو بن عبسة ـ رضي الله عنه ـ عن قصة إسلامه فيقول :
( كنت وأنا في الجاهلية، أظن أن الناس على ضلالة وأنهم ليسوا على شيء، وهم يعبدون الأوثان، فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارا، فقعدت على راحلتي، فقدمت عليه، فإذا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مستخفيا، جراء عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة، فقلت له: ما أنت؟، قال: أنا نبي، فقلت: وما نبي؟، قال: أرسلني الله، فقلت: وبأي شيء أرسلك؟، قال: أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء، قلت له: فمن معك على هذا؟، قال: حر وعبد، ـ قال: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن به ـ، فقلت: إني متبعك، قال: إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس؟، ولكن ارجع إلى أهلك، فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني .
قال: فذهبت إلى أهلي، وقدم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة، وكنت في أهلي، فجعلت أتخبر الأخبار، وأسأل الناس حين قدم المدينة، حتى قدم علي نفر من أهل يثرب من أهل المدينة، فقلت: ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة؟ فقالوا: الناس إليه سُراع، وقد أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك .
فقدِمْتُ المدينة فدخلت عليه فقلت: يا رسول الله، أتعرفني؟، قال: نعم، أنت الذي لقيتني بمكة؟، قال: فقلت: بلى، فقلت: يا نبي الله، أخبرني عما علمك الله وأجهله، أخبرني عن الصلاة؟، قال: صلِّ صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صلَّ فإن الصلاة مشهودة محضورة، حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة، فإن حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصل، فإن الصلاة مشهودة محضورة، حتى تصلي العصر، ثم أقصر عن الصلاة، حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار .
قال: فقلت: يانبي الله فالوضوء؟ حدثني عنه، قال: ما منكم رجل يقرب وضوءه فيتمضمض ويستنشق فينتثر إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله إلا خرَّت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإن هو قام فصلى، فحمد الله وأثنى عليه، ومجده بالذي هو له أهل، وفرغ قلبه لله، إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه .
فحدث عمرو بن عبسة بهذا الحديث أبا أمامة صاحب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال له أبو أمامة: يا عمرو بن عبسة، انظر ما تقول في مقام واحد يُعْطَى هذا الرجل؟، فقال عمرو: يا أبا أمامة، لقد كبرت سني، ورق عظمي، واقترب أجلي، وما بي حاجة أن أكذب على الله، ولا على رسول الله، لو لم أسمعه من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا ـ حتى عدَّ سبع مرات ـ ما حدثتُ به أبدا، ولكني سمعته أكثر من ذلك ) رواه مسلم .
وقصة إسلام الصحابي الجليل عمرو بن عبسة ـ رضي الله عنه ـ جديرة بالدراسة واستخلاص العبر والفوائد وهي كثيرة، ومنها :
ـ رسالة ودعوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قامت على ركيزتين: حق العباد، وحق الله، فذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الأول صلة الأرحام، وذكر من الثاني محاربة مظاهر الشِرك، ومن ثم قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعمرو: ( أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان )، وفي ذلك دلالة على أهمية التوحيد وصلة الأرحام في الإسلام، وعلى هذين المحورين دارت التربية النبوية في دار الأرقم وفي المرحلة المكية .
ـ حكمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحرصه على سلامة وأمان صحابته، وإبعادهم عن التعرض للأذى ومواطن الخطر، وقد ظهر ذلك حين قال لعمرو: ( إنك لا تستطيع أن تعلن إسلامك في هذا اليوم، ولكن اذهب فإذا سمعتَ أني خرجت فأتني )، وهذا الحرص النبوي لا يتعارض مع الإيمان بالقضاء والقدر، وأن ما أصاب الإنسان ما كان ليخطئه، وما أخطأه ما كان ليصيبه، ولكنه من باب السياسة الشرعية، والأخذ بالأسباب في كل مرحلة من مراحل الدعوة، وقد ذهب عمرو بن عبسة إلى قومه في قبيلة أسلم، وكان له دور كبير في إسلام الكثير من أفرادها، ثم أتى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المدينة بعد نحو ثلاثة عشرة سنة في المدينة عندما ظهر أمره، وقال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( أتعرفني؟، قال نعم، أنت الذي لقيتني بمكة )، وفي ذلك دلالة أيضا على تذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه وعدم نسيان مواقفهم وأحوالهم .
ـ فضل إسباغ الوضوء، ومشروعية الصلاة في كل وقت، إلا أوقات النهي، وأنَّ من صلَّى صلاة لا يحدث فيها نفسه غُفِرت له ذنوبه .
ـ يقين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أن الإسلام سيقوَى وتكون له شوكة ودولة، وأن عمرو بن عبسة ـ رضي الله عنه ـ سيُسْلِم ويمتد به العمر، ولذا علمه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصلاة والوضوء .
إن من أعظم مقاصد دراسة السيرة النبوية استخراج العبر والفوائد من أحداثها ومواقفها, ليستفيد المسلم منها في واقع حياته, فيعيش في جوها, ويستظل بظلالها, وينعم بآدابها وأحكامها, وتعلو همته, وبذلك يحصل له التأسي والاقتداء بالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحابته الكرام، ومنهم عمرو بن عبسة ـ رضي الله عنه ـ .