العلماء ورثة الأنبياء، ورثوا منهم العلم والفضل، وخلفوهم على أممهم وأقوامهم ليقوموا بعمل الأنبياء في الدعوة إلى الله وتبصير الناس بالحق والخير والدين، كما قال سيد المرسلين: {العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر].
والعالم إذا كان صالحا كان له في الأمة قدم الصدق، وكانت له مكانة عظمى ومنزلة كبرى، وكان أثره في الناس كأثر الشمس في النهار وأثر القمر في الليالي الظلماء، يهتدي به الضال ويسترشد به التائه، وقد مدحهم النبي صلى الله عليه وسلم في حديث إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين](رواه البيهقي وصححه الألباني).
وقد وصف الإمام أحمد أئمة الهدى وأثرهم في العباد بقوله الصادق: "يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون به أهل العمى، ويهدون به من ضل إلى الهدى، فكم من قتيلٍ لإبليس قد أحيوه، وكم من ضالٍ تائه قد هدوه"اهـ.. فهم للأمة مصابيح دجاها وأنوار هداها، يحفظ الله بهم الأمة، ويعز بهم الدين والملة، ومهما صيغت فيهم النعوت والمدائح في فضائلهم فلن نوفيهم حقهم.
ولما كان للعلماء هذا المقام السامق، والأثر الفائق كان انحراف العالم مصيبة تصيب المسلمين في مقتل، وتأخذ بجماعات منهم إلى الضلال.. وقد مر بالتاريخ من هذا الصنف جماعات، ولم تخل منهم أمة، يبتلى الله بهم العباد؛ ليعلم أهل الغي من أهل الرشاد، وأهل الإصلاح من أهل الإفساد، وما بلعام في بني إسرائيل ببدْع من هؤلاء، بل أخبر الله أنهم كانوا فيهم كثيرا كما في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ](التوبة:34)..
أعظم خطرا من الدجال:
وأمتنا كغيرها من الأمم لم تخل من هذه الطائفة المفتونة، التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن عظيم خطرها، وجليل ضررها حتى بلغ خوفه علينا من هذا الصنف أعظم من خوفه علينا من الدجال الأعور الكذاب الذي يضل العباد بمخاريقه وتلبيساته آخر الزمان.. فقد روى الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي عن النواس بن سمعان قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة، فخفض فيه ورفع، حتى ظنناه في طائفة النخل. فلما رحنا إليه، عرف ذلك فينا، فقال: ما شأنكم؟ قلنا: يارسول الله ذكرت الدجال الغداة، فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل. فقال: غير الدجال أخوفني عليكم؛... وقد ثبت في المسند بسند جيد عن أبي ذر قالوا: من يارسول الله؟ قال:الأئمة المضلون].
أئمة؟ نعم!! ولكنهم أئمة في الضلالة، والحياد بالناس عن طريق الحق والدين والهداية.. {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار}(القصص:41)..
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن فتنة الدجال هي أكبر فتنة تمر على البشر منذ خلق آدم إلى قيام الساعة، فما الذي يجعل فتنة هؤلاء الأئمة المضلين أعظم من فتنة الدجال؟
قال العلماء: وجه ذلك أن الدجال فيه من العلامات ما يجعله معروفا عند كل مسلم: فهو أعور، مكتوب بين عينيه كافر يقرؤها من يكتب ومن لا يكتب، فمن كانت عنده أدنى بصيرة علم أن هذا المخلوق الحقير لا يمكن أن يكون إلها قديرا وإلا لأصلح من حال نفسه وكمل نقص خلقته، فخطورة الدجال وفتنته على عظمها لكنها ظاهرة معروفة يسيرة على المؤمنين.
أما المنافقون منهم فضررهم أعظم، وخطرهم أكبر؛ لأنهم يلبسون على الناس باسم الدين محرفين كتاب الله وآياته، مستغلين أن سلطانهم على الناس أعظم سلطان؛ لأنهم يتكلمون باسم الدين، والناس بطبعها ميالة لدينها، واقعة تحت تأثير إيمانها، فينساقون وراءهم ـ ظنا منهم أنهم على الحق ـ مما يوقع الناس في حيرة ملمة وظلمة مدلهمة.
ولهذا كان إفساد أئمة الضلال وفقهاء السلطان وأحبار السوء للدين أعظم إفساد، وكان صدهم عن الهدى أعظم صد.. كما قال ابن المبارك رحمه الله:
وهل أفسد الدين إلا الملوك .. .. وأحبــار سـوء ورهبانها
طرق صدهم عن الهداية
لقد وقف هؤلاء المضلون أمام نور الحي القيوم وحالوا دون وصوله للناس بطرق ثلاث:
أولها: عدم العمل بعلمهم:
والأصل في العلم أن يطلب لتزكية النفس به والعمل بموجبه، فلا يطلب العلم للتعالي على الناس، ولا للتَّجَمُّل والتَّباهي به بين الخَلْق، وإنَّما هو وسيلة إلى البِرِّ والتَّقوى. قال الثَّوري: "إنَّما يُتَعَلَّمُ العلم ليُتَّقَى به الله"، وقال: "زَيِّنوا العلم، ولا تَزَّيَّنُوا به". وقال أُبَيّ بن كعب: "تَعَلَّمُوا العلمَ واعْمَلُوا به، ولا تَتَعَلَّمُوه لتَتَجَمَّلوا به، فإنَّه يوشك إنْ طالَ بكم زمانٌ أن يُتَجَمَّلَ بالعلم كما يَتَجَمَّلَ الرَّجل بثوبه".
فعلم لا يراد به وجه الله وبال، وعلم لا يعمل به صاحبه لا منفعة فيه؛ كما يقول الإمام ابن القَيِّم: "العَمَل لقاح العلم، فإذا اجتمعا كان الفلاح والسَّعَادة، وإنِ انْفَرَدَ أحدهما عنِ الآخر لم يفد شيئًا". وقال الخطيب البغدادي في كتابه القَيِّم "اقتضاء العلمِ العملَ": "ثمَّ إنِّي أوصيكَ يا طالبَ العلم بإخلاص النِّيَّة في طَلَبه، وإجهاد النَّفس على العمل بموجبه، فإنَّ العلمَ شجرة، والعملَ ثمرة، وليس يُعَدُّ عالمًا مَن لم يكن بعلمه عاملاً".. وقال بعض السلف: هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل.
والعلماء هم قدوة الخلق، فإذا لم يعملوا بعلمهم أو خالف عملهم علمهم، فإن الناس سيقتدون بعملهم؛ لأن دليل الفعل أقوى من دليل القول، ولذلك قال بعض العقلاء: "عمل رجل في ألف رجل أقوى من قول ألف رجل لرجل". والعلماء قادة والناس تبع لهم؛ فإذا ضل المتبوع سيضل التابع ولا شك. ورحم الله الإمام ابن القيم حين يقول في كتابه الفوائد: "علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون الناس إليها بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، فكلما قالت أقوالهم للناس: هلموا؛ قالت أفعالهم: لا تسمعوا منهم، فلو كان ما دعوا إليه حقا كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة أدلاء، وفي الحقيقة قطاع طرق".
فإذا فسد العالم فسد بفساده خلق كثير.. فالعلماء للناس كالسفينة في البحر، إذا غرقت غرق كل من فيها. وهم في الناس كالملح في الطعام إذا فسد هذا فسد ذاك..
يامعشر القراء ياملح البلد .. من يصلح الملح إذا الملح فسد؟
ثانيا: السكوت عن الباطل:
وهذه صورة أخرى من صور الإضلال، أن يرى العالِمُ الباطل ينتشر فيسكت، ويرى المنكر يعلو ويفشو ولا ينهى عنه، فيظن الجاهل أنه ليس بباطل ولا بمنكر؛ لأنه لو كان منكرا لأنكره هؤلاء العلماء؛ ولو كان باطلا لقاوموه ولحاربوه؛ أو على أقل تقدير بينوه؛ فيكون هذا تلبيسا وتدليسا على العباد، وإعانة على نشر الباطل والمنكر والفساد، وإضعافا للحق والعدل ولذلك قيل: "الساكت عن الحق شيطان أخرس".
وقد أخذ الله الميثاق على أهل العلم أن يبينوا الحق للناس ولا يكتمونه {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ}(آل عمران:187)، فواجب أهل العلم أن يصدعوا بالحق ويبينوه، ويبينوا المنكر ويحاربوه، والمداراة أو التقية إن صلحت في حق عوام المسلمين وآحادهم فلا تقبل في حق الكبار والعلماء المقتدى بهم، ورحم الله الإمام أحمد حيث قال: "إذا تكلم العالم تقية والجاهل يجهل فمتى يعرف الحق؟".
وفي الحديث [والَّذي نَفسي بيدِه، لتأمرنَّ بالمعروفِ ولتنهونَّ عنِ المنكرِ، أو ليوشِكَنَّ اللَّهُ أن يبعثَ عليكم عقابًا من عندِهِ، ثمَّ لتدعُنَّهُ فلا يَستجيبُ لَكُم](صحيح الترمذي وصححه الشيخ أحمد شاكر)
ثالثا: النطق بالباطل:
وهذه ثالثة الأثافي وداهية الدواهي، وقاطعة ظهر المؤمنين ومضيعة الحق ومذهبة الدين، وقد كان السلف يخافون على العالم أن لا يعمل بعلمه حتى لا يقتدى به في ترك العمل، ثم امتد الحال حتى صار الصالحون يخشون على العالم الا ينطق بالحق ويبلغه، وأن يسكت عن الباطل ولا يدافعه فيوسم بوسم بُكم الشياطين، ثم جاء زمان خشى فيه المخلصون على العالم أن ينطق بالباطل فيحرف دين الحي القيوم ويضل عباد الله المسلمين..
وأما في زماننا فقد عمت البلوى بهؤلاء المنافقين، وفتحت لهم أبواب السلاطين، وتسابقت إليهم قنوات الشياطين، فصاروا أبواقا للباطل، ودعاة.. ولكن على أبواب جهنم، يبيع الواحد دينه بثمن بخس ربما لأجل لعاعة من الدنيا من منصب أو مال، أو من أجل هوى أو جاه، أو نكاية في مخالف، أو حتى لمجرد الشهرة، بل وأحيانا تقربا للملوك والرؤساء والسلاطين من غير أن يأخذ منهم شيئا، فببين بائع لدينه بدنياه، وآخر بائع لدينه بدنيا غيره.
فباعوا النفوس ولم يربحوا .. .. ولم تغل في البيع أثمانها
لقــد رتـــع القـوم في جيفة .. .. يبـين لــذي العـقل أنتانها
تحذير النبي صلى الله عليه وسلم منهم:
وقد حذر النبي عليه الصلاة والسلام من هذا الصنف، تنبيها لأمته من خطرهم، وتحذيرا لهم من اتباعهم ففي مسند أحمد وأبي يعلى والبزار بسند صحيح عن عمر قال: حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل منافق عليم اللسان.
وقد روى الطبراني في الكبير، والبزار بسند صحيح عن عمران بن حصين قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم: [إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان].
فاللهم احفظنا بحفظك، وثبتنا على دينك، وأرنا اللهم الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبسا علينا فنضل.. اللهم آمين.