الإسراء والمعراج معجزة كبرى من معجزات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، أكرمه الله بها تأييدا لدعوته، وإظهارا لفضله وعلو منزلته، وقد حارت فيها بعض العقول، فزعمت أنها كانت بالروح فقط، أو كانت مناما، لكن الذي عليه جمهور المسلمين ـ من السلف والخلف ـ أنها كانت بالجسد والروح، قال الله تعالى عنها: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }(الإسراء :1 ) .
قال ابن حجر: " إن الإسراء والمعراج وقعا في ليلة واحدة، في اليقظة بجسده وروحه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وإلى هذا ذهب جمهور من علماء المحدثين والفقهاء والمتكلمين، وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، ولا ينبغي العدول عن ذلك، إذ ليس في العقل ما يحيله، حتى يحتاج إلى تأويل " .
وقال ابن القيم: " أُسْرِىَ برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بجسده على الصحيح من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، راكبًا على البُرَاق، صحبة جبريل ـ عليهما الصلاة والسلام ـ، فنزل هناك، وصلى بالأنبياء إمامًا، وربط البراق بحلقة باب المسجد، ثم عرج به تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء الدنيا " .
إن رحلة ومعجزة الإسراء والمعراج لم تكن مجرد حادث عادي، بل اشتملت على معان ودروس كثيرة، وأظهرت بشكل واضح فضْل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على جميع الأنبياء والرسل .
إمام الأنبياء :
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي ، فسألتني عن أشياء في بيت المقدس لم أثبتها، فكربت كربة ما كربت مثله قط، قال: فرفعه الله لي أنظر إليه، ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به، ولقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسى قائم يصلي، فإذا رَجُلٌ ضَرْبٌ (وسط) جعد (من جعودة الشعر)، كأنه من رجال شَنُوءَة (قبيلة مشهورة)، وإذا عيسى بن مريم قائم يصلي، أقرب الناس به شبها عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم عليه السلام قائم يصلي، أشبه الناس به صاحبكم - يعني نفسه ـ، فحانت الصلاة، فأممتهم ) رواه مسلم .
هذه الواقعة حدثت في ليلة الإسراء والمعراج حيث وردت في سياق حديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن سؤال المشركين له عن أوصاف بيت المقدس، وفيها دلالة واضحة على أفضلية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على جميع الأنبياء، فقد صلى بهم إماما، وفيهم من فيهم من أولي العزم من الرسل ـ إبراهيم وموسى وعيسى ـ صلوات الله وسلامه عليهم جميعا ـ.
قال ابن كثير في تفسير قول الله تعالى: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى }(الإسراء من الآية: 1): " يُمجَّد تعالى نفسه، ويعظم شأنه، لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه، فلا إله غيره، { الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } يعني: محمدا ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ، { ليْلاً } أي: في جنح الليل، { مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } وهو مسجد مكة، {إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } وهو بيت المقدس الذي هو بإيلياء، معدن الأنبياء من لدن إبراهيم الخليل، ولهذا جمعوا له هنالك كلهم، فأمهم في محلهم ودارهم، فدل على أنه هو الإمام الأعظم، والرئيس المقدم، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين " .
لا شك أن نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو أفضل الأنبياء، بل هو سيد ولد آدم جميعا، فعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ، آدم فمن سواه إلا تحت لوائي ) رواه الترمذي .
والأنبياء جميعا ـ عليهم السلام ـ لو قّدِّر لهم أن يجتمعوا في عصر واحد ما وسِعَهم إلا أن يتبعوا نبينا محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وقد قال النبي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: ( لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولو كان موسى حيّا ما وسعه إلّا اتّباعي ) رواه أحمد، وفي رواية أخرى: ( لو كان أخي موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي )، ويؤيد ذلك قوله تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ }(آل عمران: 81).
يقول السعدي: " فكل الأنبياء لو أدركوا محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ لوجب عليهم الإيمان به واتباعه ونصرته، وكان هو إمامهم ومقدمهم ومتبوعهم، فهذه الآية الكريمة من أعظم الدلائل على علو مرتبته وجلالة قدره، وأنه أفضل الأنبياء وسيدهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ " .
فائدة :
حياة البرزخ ـ التي بين الدنيا والآخرة ـ وأحوالها تختلف تماما عن الحياة الدنيا، فلا تقاس عليها، ومن ثم يجب على المسلم أن يعتقد أن الحياة البرزخية لا تجري عليها سَنن الحياة الدنيوية، وإذا كانت حياة الشهداء البرزخية عند ربهم كاملة، فإن حياة الأنبياء أكمل، وقد ورد في كتاب الله في حق الشهداء أنهم أحياء يُرْزَقون، فكيف بالأنبياء والمرسلين، قال الله تعالى : { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ }( آل عمران 169: 171 ) .
والثابت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه رأى موسى ـ عليه السلام ـ في قبره يصلي، ورآه أيضا في السماء، وأنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ صلى بالأنبياء إماما بما فيهم موسى ـ عليه السلام ـ، فالله على كل شيء قدير، ولا يجوز إنكار ما ثبت صحته عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الموطن أو غيره، لحيرة العقول فيه، أو قياس عالم الغيب وعالم البرزخ على عالم الشهادة، فكل ذلك خطأ وانحراف عن الصراط المستقيم، ومن ثم فالمسلم يؤمن بهذه الحياة دون التعرض لكيفيتها وحقيقتها إلا بنصوص من الوحي ـ القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة .
قال ابن حجر: " وما أفاده من ثبوت حياة الأنبياء حياة بها يتعبدون، ويصلون في قبورهم، مع استغنائهم عن الطعام والشراب كالملائكة أمر لا مِرْية فيه " .
وقال القرطبي: " فإن قيل: كيف يصلون بعد الموت وليس تلك الحال حال تكليف؟، فالجواب: أن ذلك ليس بحكم التكليف، وإنما ذلك بحكم الإكرام لهم والتشريف، وذلك أنهم كانوا في الدنيا حببت لهم عبادة الله تعالى والصلاة بحيث كانوا يلازمون ذلك، ثم تُوفوا وهم على ذلك، فشرَّفهم الله تعالى بعد موتهم بأن أبقى عليهم ما كانوا يحبون، وما عُرِفوا به " .
وقال ابن تيمية: " هذه الصلاة ونحوها مما يتمتع بها الميت ويتنعم بها كما يتنعم أهل الجنة بالتسبيح، فإنهم يلهمون التسبيح كما يلهم الناس في الدنيا النَّفَس، فهذا ليس من عمل التكليف الذي يطلب له ثواب منفصل، بل نفس هذا العمل هو من النعيم الذي تتنعم به الأنفس وتتلذذ به " .
وقال الألباني: " ثم اعلم أن الحياة التي أثبتها هذا الحديث للأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ إنما هي حياة برزخية، ليست من حياة الدنيا في شيء، ولذلك وجب الإيمان بها دون ضرب الأمثال لها ومحاولة تكييفها وتشبيهها بما هو المعروف عندنا في حياة الدنيا، هذا هو الموقف الذي يجب أن يتخذه المؤمن في هذا الصدد: الإيمان بما جاء في الحديث دون الزيادة عليه بالأقيسة والآراء، كما يفعل أهل البدع الذين وصل الأمر ببعضهم إلى ادِّعاء أن حياته ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قبره حياة حقيقية!، قال: يأكل و يشرب ويجامع نساءه !!، وإنما هي حياة برزخية لا يعلم حقيقتها إلا الله سبحانه وتعالى " .
لقد فضل الله ـ سبحانه ـ نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخصَّه بأشياء دون غيره من الأنبياء، تشريفا وتكريما له، مما يدل على جليل قدره وعلو منزلته، ومن هذه التشريفات صلاته بالأنبياء إماما في رحلة الإسراء والمعراج، وإذا كانت كل أمة من الأمم السابقة تفتخر وتدَّعي انتسابها إلى نبي الله إبراهيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ لشرفه وإمامته، فحقيق بأمة الإسلام أن تفتخر أنها تنتسب إلى خاتم النبيين ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ الذي صلى إبراهيمُ وموسى وعيسى ـ عليهم السلام ـ وراءه مأمومين، ويكون هذا الانتساب إليه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بالقول والاتباع والعمل .