العمل الصالح هو العمل المرضي عند الله تعالى، ولا يكون كذلك إلا إذا توفر فيه شرطان.. الأول: إخلاص لله، والثاني: أن يكون وفق شرعه، (وهو ما يطلق عليه المتابعة، أي متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم). فإذا فقد العمل أحد هذين الشرطين كان مرفوضا مردودا لا ثواب عليه!! قال تعالى: {فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا}.. وقال سبحانه: {تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا}، قال أبو علي الفضيل بن عياض: أخلصه وأصوبه.. إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبله الله، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبله الله حتى يكون خالصا صوابا، والخالص الذي يريد به وجه الله، والصالح أن يكون على السنة.
لابد من الإسلام:
هذا بالنسبة للصلاح.. أما بالنسبة للقبول فيزيد لنا شرط ثالث ألا وهو الإسلام.. فالكفار في كل زمان، وكل من لم يؤمن بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بعد بعثته، فلا قيمة لعمله مهما عمل؛ قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}(الفرقان:23)، وقال جل شأنه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}(النور:39).. فضرب الله مثلا لعمل الكافر بإنسان يمشي في وقت حار جداً في صحراء ليس فيها قطرة ماء فيرى سرابا يتوهم أنه ماء، حتى إذا وصل إليه لم يجد شيئا، وهكذا الكافر غير المؤمن يظن أنه يقدم إنجازاً كبيراً، لكن الحقيقة أن هذا الإنجاز لا وزن له يوم القيامة، قال الإمام ابن كثير عند تفسير هذه الآية: "فكذلك الكافر، يحسب أنه قد عمل عملاً وأنه قد حصل شيئاً، فإذا وافى اللّه يوم القيامة وحاسبه عليها ونوقش على أفعاله لم يجد له شيئاً بالكلية، كما قال تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا}.
وقد ضرب الله لهم مثلا آخر في سورة إبراهيم فقال: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ۖ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ۖ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَىٰ شَيْءٍ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ}.. يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: "هذا مثل ضربه اللّه تعالى لأعمال الكفار الذين عبدوا معه غيره، وكذبوا رسله وبنوا أعمالهم على غير أساس صحيح، فانهارت فقال تعالى: {مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم} أي مثل أعمالهم يوم القيامة إذا طلبوا ثوابها من اللّه تعالى، لأنهم كانوا يحسبون أنهم كانوا على شيء، فلم يجدوا شيئاً إلا كما يتحصل من الرماد إذا اشتدت به الريح العاصفة {في يوم عاصف} أي ذي ريح شديدة عاصفة قوية، فلم يقدروا على شيء من أعمالهم التي كسبوا في الدنيا.
وقد اشترط الله في كتابه الإيمان كشرط لقبول العمل والهداية إلى الحياة السعيدة فقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(النحل: 97). فقال: وهو مؤمن.
والمشركون والكفار بجميع أصنافهم من أهل النار لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها؛ بهذا حكم القرآن الكريم وقضى الله العظيم في كتابه فقال: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}(المائدة: 72).. وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا}(النساء: 48).. وقال عن الكفار: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا}(النساء: 56)
وإنما أطلنا النفس في الاستدلال على أن كل من يكفر برسالة الله أو بأحد من رسله، فهو كافر مخلد في النار لأن بعض الناس جعل يلبس على العوام ويزعم أن كل أصحاب الديانات كلهم في الجنة وأنه لا فرق بين مسلم وغير مسلم في ذلك، ولا فرق بين من اتبع محمدا رسول الله ومن لم يتبعه!! وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم: [والذي نفسُ محمدٍ بيده، لا يَسْمَعُ بي أحدٌ مِن هذه الأمةِ يهوديٌّ ولا نصرانيٌّ، ثم يموتُ ولم يُؤْمِنْ بالذي أُرْسِلْتُ به، إلا كان مِن أصحابِ النارِ]..
النهي عن الابتداع:
إذا علمنا أن صلاح العمل يلزم له إخلاص ومتابعة للرسول عليه الصلاة والسلام، وجب أن يحذر المسلمون البدعة بكل صنوفها، فإن الابتداع في الدين طعن فيه، وزعم بأنه ناقص يحتاج إلى ما يكمله، ورد لكتاب الله بأنه أكمل الدين وأتم النعمة، ومن هنا كانت البدعة أحب إلى إبليس من الكبيرة، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يحذر منه أشد التحذير؛ كما في سنن الترمذي من حديث العرباض بن سارية: [وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار]. وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قال عليه الصلاة والسلام: [من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد].. وفي رواية: [من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد]، أي مردود على صاحبه غير مقبول. قال أبو بكر: "إنما أنا متبع ولست بمتدع"، وقال ابن مسعود "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم"..
مكانة العمل الصالح:
لا شك أن للعمل الصالح مكانة عظيمة في الإسلام، لأنه ثمرة الإيمان، وعند أهل السنة يدخل في مسمى الإيمان؛ إذ الإيمان كما قال الأئمة: (قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان). وقد اقترن بالإيمان في آيات كثيرة من القرآن جاءت بالحث عليه، وبيان ثواب وأجر فاعله، وربطه بالنجاة والسعادة في الدنيا والآخرة، وأن تركه خسارة وبوار كما في سورة العصر.. {والعصر . إن الإنسان لفي خسر . إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}.
ويتنوع العمل الصالح وتتسع دائرته إلى كل ما أمر الله به أمر وجوب أو استحباب، وحتى يشمل كل ما يقصد به القربة ـ وكان مشروعا أو مباحا ـ إذا صحت النية؛ حتى يدخل فيه النوم والأكل بنية التقوِّى على العبادة، وحتى قضاء الشهوة بنية التعفف [وفي بضع أحدكم صدقة].
تفاوت الأعمال الصالحات:
والأعمال الصالحة تتفاوت في مراتبها وأجورها، وأعظمها العبادات وما أوجبه الله تعالى من الفرائض، ثم تتفاوت الأعمال بعد ذلك حسب الحاجة والمنفعة.. والدليل على تفاوت مراتب الأعمال الصالحة قوله تعالى في الحديث القدسي: [وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه] (رواه البخاري), وكذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم: [الإيمان بضع وسبعون (أو بضع وستون) شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان](رواه مسلم). وبين قول لا إله إلا الله وإماطة الأذى عن الطريق مراتب لا يأتي عليها العد ولا الحصر.
ملحوظة هامة:
وهي ضرورة النظر إلى مراتب الأعمال عند العمل الدعوي، فهناك الحسن والأحسن، والطيب والأطيب، والفاضل والمفضول، والأولى والأولى منه.. فواجب الوقت يقدم على غيره، والنفع العام يقدم على النفع الخاص، والخير المتعدي مقدم على غير المتعدي وهكذا.. ولابد من معرفة خير الخيرين وشر الشرين والموفق من وفقه الله تعالى.
أثر العبادات:
ويبقى أن نقول: إن للالتزام بالعبادات والأعمال الصالحات أثرا في تزكية نفس فاعلها، وإصلاح الفرد ثم إصلاح المجتمع، وهذا واضح في النصوص الشرعية.. فالعبادات كلها ما وضعت إلا لهذا السبب وهي تطهير النفس وتزكيتها قد أفلح من زكاها..
ففي الصلاة يقول تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ ۖ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}(العنكبوت: 45).. وفي الزكاة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }(التوبة: 103).. وفي الصيام: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(البقرة: 183).. وكذا في الحج: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ۚ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} (البقرة:197)..
فدل هذا كله على أن العلة الكبرى من فرض هذه العبادات تزكية النفوس وتطهيرها من أدرانها، وإصلاح فسادها، ومع صلاح الفرد يصلح المجتمع، ويسعد وجه الحياة برضا الله تبارك وتعالى. والله أعلم.. وصلى الله على نبينا محمد وعلى أله وصحبه وسلم.