قال الله تعالى حاكيا عن معركة موسى عليه السلام وقومه مع فرعون وملائه: {وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون * قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين * قَالُوۤاْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُون}(الأعراف:127- 129) وتكشف هذه الآيات عن مرحلتين من مراحل تاريخ قوم موسى:
الأولــى: مرحلة الإيذاء والاضطهاد.
والثانية: مرحلة النصر والاستخلاف.
وتمر معظم الحركات الإسلامية بالمرحلة الأولى وبعضها قد وصل للمرحلة الثانية.
ومع أن كلا المرحلتين لها ابتلاءاتها، ولكن يبدو من الآية أن مرحلة النصر أكثر ابتلاء من مرحلة الاضطهاد، إذ يعقب الله تعالى عليها بقوله: (وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُون).
ففي قوله (فينظر كيف تعملون) وعد ووعيد خفي. يعنى أن الله ينظر ويراقب وسيجازيكم خيرا إن شكرتم وصبرتم وثبتم على مبادئكم بعد النصر وبعد الفرج، وسيعاقبكم إن نكصتم عن مبادئكم وتحولتم وتغيرتم وأطغاكم النصر والقوة والسلطان.
المواجهة:
والسياق القرآني يحكي المرحلتين ويلخصهما خير تلخيص:
فمن ناحية يكشف القرآن طبيعة الطاغوت والجبروت المتمثل في فرعون، وتنكيله واضطهاده للفئة المؤمنة وإيذائها بأنواع الأذى سعيا لانكسارها واستضعافها وطمعا في تغييرها مواقفها ونكوصها عن مبادئها. (وَقَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ).
وفي المقابل نرى قيادة الجماعة المؤمنة تحثها على الاستعانة بالله تعالى والصبر على الابتلاء والأذى، وتذكيرها بالحقيقة التي قد ينساها الناس في وقت الأذى والضعف؛ وهي أن الأرض لله يورثها من يشاء، ليبعث في نفوسهم الأمل والرجاء في النصر. (قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱسْتَعِينُوا بِٱللَّهِ وَٱصْبِرُوۤاْ إِنَّ ٱلأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
ومع انكسار البعض وضعفهم يأتي التذكير بأن النصر قادم، وأن النصر له أيضا ابتلاءاته التي تحتاج إلى عزيمة وصبر لعله أكبر مما يحتاجه زمن الشدة والإيذاء، (قَالُوۤاْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ).
ولا شك أن كثيرا من الحركات الإسلامية المعاصرة قد ذاقت ولا تزال تذوق، الإيذاء والاضطهاد والاستضعاف والذل والهوان. وقد ضرب أكثرها إن لم يكن كلها في هذه المرحلة الأولى من عمر الدعوات أمثلة رائعة للصبر والتضحية والاستمساك بالمبادئ والثبات عليها.
وقد وصلت بعض الحركات الإسلامية إلى مرحلة السلطة سواء كان ذلك مشاركة مع الأنظمة الحاكمة أو كان ذلك بتسلم مقاليد الحكم واستلام السلطة.
وينتظر الناس أن يروا النماذج للصبر والثبات على المبادئ في مرحلة النصر والفرج هذه كما رأوا أمثلة رائعة للثبات والصبر في مرحلة الأذى والاضطهاد.
فهل يا ترى سيثبت الإسلاميون في مرحلة النصر أم سيسقطون؟
ولعل مرحلة النصر والفرج أكثر ابتلاءً، لأن فيها فتنة السلطة وفتنة الجاه وفتنة الثروة والمال. وكل ذلك يسكر وينسى ويطغي ويفسد. فقد روى الترمذي وصححه عن كعب بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه).
ومن أجل هذا كان موسى عليه السلام يذكّر قومه وهم في مرحلة الاستضعاف بأن النصر قادم وأن الله تعالي سيأتي به إن تحققت أسبابه، وحينئذ (فينظر كيف تعملون) فيه، هل ستثبتون أم ستسقطون.
ولقد ثبت من قوم موسى بعد النصر من ثبت ولقد سقط منهم من سقط ، وفي كل ذلك عبرة لمن يعتبر (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).