جعل النبي صلى الله عليه وسلم للمنافق آية يعرف بها بين الناس، ومن آياته : أنه إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان .
وهذه الثلاث أركان الحياة الخلقية الاجتماعية، وتضافرت الآثار على ذم الكذب وأهله، ومدح الصدق وأهله، وبيان خطر الأمانة، وأنها عُرضت على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وهنَّ كنَّ أقوى عليها، وحملها على ضعفه الإنسان – وإن المسلم ربما ألمَّ ببعض الذنوب، ولكنه لا يكذب أبدًا، كما جاء في الحديث .
ثمَّ إنَّك مع ذلك كلِّه تجد المنتسبين إلى الإسلام اليوم، من أرباب الصناعات وأهل السوق، أكذب لهجة، وأخلف وعدًا، وأضيع لأمانة كثير ممن ليسوا مسلمين، حتى صار المثل يضرب بالوعد الشرقي في خلفه وإضاعته والتأخر عنه، وصار من يريد أن يؤكد وعدًا يصفه بأنه (وعد أوروبي)! اللهمَّ إنَّ هذا لمن العجب العجاب !!
إنَّ الله بيَّن خطر الأمانة، وأنزلها هذه المنزلة، وخوَّف من حملها؛ لأنَّها جماع الأخلاق، وسلْكة عقد الفضائل، وعمادها، فما من شعبة من شعب الأخلاق والخير الاجتماعي إلَّا إليها مردُّها، وما خصلة من خصال الشر إلَّا والخيانة أساسها وحقيقتها .
وليست الأمانة هي أن تحفظ الوديعة حتى تؤديها إلى أصحابها (فقط)، فإنَّ هذه صورة من صورها، وشكل من أشكالها، وإنَّ السلطان في يد الموظف أمانة، فإن وضعه في غير موضعه، أو اتخذه وسيلة إلى جلب منفعة له، أو لأسرته، أو لأصحابه - فقد خان أمانته، والدرجات أمانة في يد الأستاذ الممتحن يوم الامتحان، فإن أعطى منها واحدة لغير مستحقها، أو منع واحدة من يستحقها، أو راعى في منحها شفاعة أو صداقة أو بغضًا أو موجدة- فقد خان أمانته، والقدرة على الحكم أمانة في يد القاضي، فإن زاغ عن الحقِّ شعرة فقد خان، والعمل أمانة في يد الأجير المستصنع، فإن قصَّر في تجويده، أو أفسد فيه شيئًا، ولو كان الفساد خفيًّا لا يظهر- فقد خان، واعتقاد الناس بك الصلاح والتقى أمانة في يدك، فإن اتخذت هذا الاعتقاد سببًا إلى جمع المال، وعملت من لحيتك العريضة وعمامتك المنيفة شبكة لاصطياد الدنيا، أو كتمت الحق ابتغاء الحظوة عند العامة، أو الزلفى إلى الحاكم فهي خيانة، إلى غير ذلك من الصور والأشكال .
بل إنَّك إذا دقَّقت وتلطَّفت وجدت هذه الجوارح التي أعطاكها الله أمانة في يدك، فإذا نظرت بعينك إلى حرام، أو حركت به لسانك، أو خطوت إليك برجلك، أو مددت إليه يدك، فقد خنت الأمانة، بل إنَّ عمرك كلَّه أمانة لديك، فلا تنفق ساعة منه إلا فيما يرضى (صاحب الأمانة !)
فأين المسلمون اليوم من هذا ؟
لقد رأيت من قلة الأمانة، عند الصنَّاع والتجَّار والعلماء والجهلاء ومن يظنُّ به المغفلون الولاية، ويرونه قطب الوقت، ما لا ينتهي حديثه، ولا العجب منه، وما خوَّفني الناس أن أعاملهم حتى جعلني أحمل همًّا كالجبل ثقلًا، كلما عرضت لي حاجة لابد فيها من معاملة الناس، ولا والله لا أتألَّم من اللص يتسوَّر علىَّ الجدار، ويسرق الدار، كما أتألَّم من الرجل يُظْهِر لي المودة، ويُعْلِن التُّقَى، فإذا كانت بيني وبينه معاملة، وتمكَّن منِّى أكلني بغير ملح، وتعرَّق عظامي ! .
تذهب إلى الخياط الحاذق الذي ألفته وألفك، واستمررت على معاملته عمرك، والخياط من شرور المدنية لا يُستغنَى اليوم عنه، وقد انقضى زمان كان الرجل فيه يخيط لنفسه، أو يخيط له أهله، وكان الثوب يُتَّخذ فيه لمجرد الستر والدفء، ولم يبقَ لك منجى من أن تؤمَّ الخياط تحمل إليه (الجوخ) الثمين، وتسأله أن يضرب موعدًا لا يخلفه، ينجز لك فيه ثوبك الذي تريده للعيد أو للزفاف أو للسفر، ولكلِّ واحد من أولئك وقت لا يتقدم عنه ولا يتأخر، فالعيد لا ينسأ لك في أيامه، والزفاف أن أعلنته لا يؤجَّل، فيعدك ويؤكِّد الوعد، فإذا جئت في اليوم الموعود وجدته لم يَمَسَّ بعدُ قماشك، فإذا زجرته أو أنَّبته أخَذَك باللِّين، وَرَاغَ منك، وحلف لك مائة يمين غموس... إنه نسى أو مرض، أو أنَّه لم يعدك في هذا اليوم، ولكن كان (سوء تفاهم)، وأنَّك راجع في يوم كذا فواجد ثوبك مُعَدًّا، وتعود ويعود إلى كذبه، حتى يمضى العيد أو الزفاف، ولا يبقى للثوب فائدة، وربما جعله قصيرًا أو ضيقًا أو معتلًا أو مضاعفًا أو مجوفًا .. أو على خلاف ما استصنعته عليه، ولا حيلة لك فيه، ولا سبيل إلى إصلاح ما فسد، فتلبسه مكرهًا، أو تلقيه في دارك حتى تأكله (العثة) والأرضة ...
وهذه الحال من إخلاف المواعيد، واختلاق الأكاذيب، عامة في أرباب الصناعات في بلادنا، لم ينج منها إلا الأقل الأقل ممن عصم ربك...
احتجت مرة إلى عامل يصلح لي طائفة من المقاعد، أستقبل عليها ضيفي، وأكرم بها زوَّاري، وهي وحدها التي أخشى اللصوص عليها؛ لأنَّها خير ما في الدار، حاشا الكتب، فدلُّوني على رجل له دكان ظاهر في شارع كبير، وفوقه لوحة، كتب عليها اسمه وصناعته ووصف براعته وأمانته، فأنست به، وكان كهلًا مشقشق اللسان، وأخذته فأريته المقاعد، واستأجرته لإصلاحها، ودفعت إليه أكثر الأجرة مقدَّمًا، وتركته ووكلت أخًا لي صغيرًا به، وذهبت إلى عملي، لم أرجع إلا المساء، فوجدت الرجل قد بعج بطون الكراسي، وأخرج أحشاءها، وكسر عظامها وأرجلها، ولم يقدر على إعادتها سيرتها الأولى؛ لأنه جاهل بالصناعة، فهرب وذهبت أُفتِّش عنه حتى قبضت عليه، وأعدته إلى الدار، فاجتهد جهده، فكانت غاية ما استطاعه أنَّه جعل من مقاعدي المريحة آلات للتعذيب، ومقاعد للأذى، إن لم يشقَّ ثوب القاعد عليه مسمار ظاهر منها، ثقبت ظهره خشبة بارزة، أو كان مجلسه على أحدِّ من شوك القتاد، وقبض الأجرة كاملة غير منقوصة...
ولو شئت أو لو شاء القراء لسَرَدت ثلاثين واقعة، ما هذا الذي ذكرت بأشدَّ منها ولا أعجب، فأين تقع الأمانة في نفوس هؤلاء الذين يدَّعون أنَّهم من المسلمين …
أما إنه لخطب جسيم – فماذا تصنع المدارس ومُعلِّموها، والمساجد وواعظوها، والصحف وكاتبوها، إذا لم يعلنوا على الخيانة حربًا لا هوادة فيها ولا مسالمة حتى يكون النصر عليها ؟ وكيف لعمر الحق يكمل لنا استقلال، أو تتمُّ سيادة، أو نجاري شعوب المدنية ونسابقها، إذا لم تسُدِ الأمانة فينا، وإذا كان الواحد منَّا لا يستطيع أن يطمئنَّ إلى أخيه، ولا يعتمد على أمانته؟ وإذا كنَّا نقلِّد الغربيين في الشرور، فلماذا لا نقلِّدهم في الصدق في المعاملة، والوفاء بالوعد، والاستقامة في العمل؟
أمَا إنَّ من أشكال الأمانة وصورها، أنَّ القلم المتين، واللسان البليغ، أمانة في يد الكاتب والخطيب، فإذا لم يستعملاهما في إنكار المنكر، والأمر بالمعروف، والدعوة إلى الإصلاح، كانا ممن خان أمانته، وأضاعها، وفرَّط فيها، فلينظر لنفسه كل كاتب وشاعر وصحفي وخطيب !