لكلٍّ من مرحلة الدعوة ومرحلة الدولة سمات، ولكلٍّ منهما فقه، وقد شاء الله لنا أن نرى مسيرة التيار الإسلامي من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة، ولا يعني ذلك أن الدعوة تنتهي بالوصول إلى مرحلة الدولة، بل الدعوة وظيفة أتباع المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لكن المراد الانتقال من مرحلة الدعوة بلا دولة إلى الدعوة التي تشارك في بناء دولة ويصبح لها شيء من السلطان والتمكين في الأرض.
ولقد كان الانتقال من الدعوة إلى الدولة سريعاً جارفاً كانجراف السفينة، ومع هذا الانجراف قد يصاب الإنسان أحياناً بشيء من عدم التماسك أو عدم التوازن على نحو ما قال عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر.
فإن لمرحلة الدعوة طبيعتها التي تربط العبد دائماً بالله - عز وجل -، وتستجمع كل قوى النفس فتجعلها في يقظة تامة وهجرة دائمة إلى ربها، فالممارسات فيها ما بين وعظ وتعلم وتعليم وهداية ومكث في المساجد وعبادة ومشاعر رقيقة ترفرف في عالم الأخوّة الصافية والحب في الله، ناهيك عن المحنة التي قد تصاحب مرحلة الدعوة فتضيف لها سمتاً خاصاً يطبع حياة الدعاة بالتضرع المستمر إلى الله، والدعاء الدائم من قلوب ملذوعة ونفوس مكلومة تبحث عن الأسحار لما تجده فيها من مزيد أنس وقرب من الله الرحيم المطلع على كل شيء الذي يداوي تلك القلوب التي بلغت الحناجر وهي تتضرع إليه {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} [يوسف: ٨٨].
إنه الفقر إلى الله وصحة الاضطرار إليه.. فيداويهم جلَّ وعلا بنسائم رحمته وواسع مغفرته، وهو يرى ما بهم {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}، فيمسح عنهم الأسى والحزن واللأواء {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 18].. الله أكبر.. يا لها من لحظات عجيبة تنفض عن القلوب كدر الدنيا وهمها ودخنها، وتأخذها من التعلق بالأغيار إلى التعلق بالواحد القهار، فتنقطع عن الخلق إلى الحق، وشتان ما بين الانقطاعين {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر: ٢].
ولك أن تتصور تلك النقلة البعيدة من هذه الأجواء إلى الأجواء الجديدة بسماتها الجديدة، وهي نقلة لا يتماسك أمامها إلا أولو العزم أصحاب النفوس العالية الموصولة بربها، والأرواح المحلّقة في الملأ الأعلى وهي لا تزال بعد في هذه الدنيا، فيصدر عنها في مرحلة الدولة من عظمة الصلة بالله والتعلق بالدار الآخرة؛ ما كان يصدر عنها في مرحلة الدعوة والمحنة أو أضعافه.
تأمَّل حال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو يخاطب نفسه - عمر بن الخطاب أمير المؤمنين! -: والله لتطيعن الله أو ليعذبنك... يا ليت أم عمر لم تلد عمر... وددت لو خرجت منها كفافاً لا لي ولا عليّ. وحين أشرف على الموت قال لابنه عبد الله - رضي الله عنه -: ضع خدي على الأرض. ثم قال: ويلي إن لم يغفر الله لي.
وهذا أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - يتململ في محرابه قابضاً على لحيته يخاطب الدنيا: يا دنيا غري غيري، إليّ تعرضت أم إليّ تشوقت؟ لقد بتتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعمرك قصير، وخطرك حقير...
وهذا الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز كان يجمع الفقهاء والقراء في كل ليلة فيتذاكرون ثم يبكون كأن بين أيديهم جنازة.. وبكى ليلة فبكى أهل الدار ببكائه، فلما انجلت عنه العبرة سألوه: ممّ بكيت؟ قال: قرأت قوله تعالى: {فَرِيقٌ فِي الْـجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: ٧] فلا أدري في أيّ الفريقين أكون؟
إنها مدرسة النبوة التي انصبغوا بصبغتها... مدرسة التعلق بالآخرة كأنها رأي عين، واحتقار الدنيا ووضعها في حجمها الذي تستحقه حتى لا تحدث أدنى تغيير أو تلويث لنفوسهم حتى لو صاروا ملوك الدنيا.
أليس عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - هو الذي يروي لنا كيف علّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وربّاه على التعلق بالآخرة وعدم الانبهار بالدنيا ومُلكها ومناصبها وزخرفها؟
يقول - رضي الله عنه - فيما أخرجه عنه مسلم في صحيحه: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على حصير، فجلست، فأدنى عليه إزاره وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثر في جنبه، فنظرت ببصري في خزانة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع، ومثلها قرظاً – نبات يدبغ به – في ناحية الغرفة، وإذا أفيق – جلد لم يتم دباغه – معلّق. فابتدرت عيناي. قال: «ما يبكيك يا ابن الخطاب؟». قلت: يا نبي الله وما لي لا أبكي، وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها ما أرى، وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار وأنت رسول الله وصفوته وهذه خزانتك! فقال: «يا ابن الخطاب.. ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟». قلت: بلى.
وفي رواية أن عمر - رضي الله عنه - حين دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه متوسداً مضطجعاً على حصير، وليس في البيت إلا صبرة من قرظ واهية معلقة، فابتدرت عينا عمر بالبكاء، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يبكيك يا عمر؟». فقال: يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت صفوة الله من خلقه. فقال: «أو في شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجّلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا»... ومات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي! بأبي هو وأمي صلوات ربي وسلامه عليه.
إنها إشارات مضيئة للدعاة وهم يمارسون دورهم في مرحلة الدولة تقول لهم: إنكم لن تفلحوا حتى تراقبوا الله وتستقيموا على شرعه في كل ممارساتكم، وتتعلقوا به وحده، وتتقوه في ذوات أنفسكم وعموم شأنكم، وتعيشوا بقلوبكم في الآخرة وأبدانكم في الدنيا، ولا تنسوا هذه الآية التي ينبغي أن ترتجف منها قلوبنا {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 1٢9]، نعم والله {فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
د.هشام عقدة ـ البيان: 308