ذكر الله في كتابه كثيراً من خصومات المشركين واعتراضاتهم على النبي –صلى الله عليه وسلم، يقف عليها كل مستعرض لأسباب نزول الآيات، ومن ذلك اعتراضهم وخصوماتهم في مسألة النبوّة: {وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} (الزخرف:)، واعتراضاتهم على إعجاز القرآن ومصدريّته الإلهيّة: {وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون} (الفرقان:)، واعتراضهم على قضيّة البعث: {وقال الذين كفروا أإذا كنا ترابا وآباؤنا أإنا لمخرجون * لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين} (النمل:67-68).
ومن جملة خصوماتهم ما جاء في باب الإيمان بالقدر، وييبين لنا أبو هريرة رضي الله عنه ذلك بقوله: جاء مشركو قريش إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخاصمون في القدر فنزلت هذه الآية: {يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر} (القمر: 49) رواه الترمذي.
ومن أبرز خصوماتهم في باب القضاء والقدر، محاولات تبريرهم لما هم عليه من الواقع الشركي، والممارسات الوثنيّة الخرافيّة، إسكاتاً لصوت الفطرة في قلوبهم وإطفاءً لحرارة عتاباتها وإنكارها، و" احتجاجهم بالقضاء والقدر ليس مقصوداً، ويعلمون أنه ليس بحجة، وإنما المقصود منه دفع الحق، ويرون أن الحق بمنزلة الصائل، فهم يدفعونه بكل ما يخطر ببالهم من الكلام وإن كانوا يعتقدونه خطأ "، وقد شهد القرآن على تلك المحاولات التبريريّة في مثل قوله تعالى: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون * قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين} (الأنعام:148-149)، وقوله سبحانه: {وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون * أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون} (الزخرف:20-21).
ولأن هذه الطريقة الغائبة الحاضرة لم يزل بعض العصاة يتذرّعون بها ويمنّون بها أنفسهم، كان لزاماً أن نُسلّط الضوء على مكمن الخلل الحاصل في ذلك الاعتراض، وبيان أوجه الجواب عليه.
بدايةً نقول: إن قول المشركين: { لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا} وقولهم: { لو شاء الرحمن ما عبدناهم} هو خلطٌ متعمّد بين أمرين مختلفين، وحقيقتين شرعيّتين متباينتين، ومحصّلهما أن الله جلّ جلاله متّصفٌ بإرادتين: الإرادة الشرعيّة، والتي تتعلّق بما يحبّه الله تعالى ويرضاه من عباده شرعاً، وهذه الإرادة لا يلزم وجود مرادها، فقد توجد وقد لا توجد، فإن الله أراد شرعاً أن يعبده المكلّفون، وهذا المُراد الإلهي قد حقّقه الطائعون دون غيرهم، وأما الإرادة الثانية فهي الكونيّة، وهي المتعلّقة بما أراد الله وجوده وتحقّقاً كوناً وقدراً، ولا يلزم منها أن تكون تلك المرادات مما يحبّه الله ويرضاه, فقد يدخل فيها الكفر والفسوق والعصيان، وهذه الإرادة لا يخرج عن مرادها شيء في الكون.
والواقع أن هؤلاء المشركين اعتقدوا أن كل ما شاء الله وجوده وكونه بالإرادة القدرية، فقد أمر به ورضيه، وقادهم هذا الخلط إلى تطبيقه على قضيّة شركهم، فرأوا أن شركهم بغير شرع مما قد شاء الله وجوده، فيكون قد رضيه وأمر به –حسب زعمهم-.
فكان الرّد عليهم بما يلي:
{كذلك كذّب الذين من قبلهم} فأخبر سبحانه وتعالى أن هذه الشبهة ليست وليدةً، بل تذرّع بها المشركون من الأمم السابقة، ولم يزالوا يدافعون دعوات الرسل بهذه الحجّة، فلم تُغنِ عنهم من الله شيئاً، وحاق بهم ما كانوا يكسبون، والشاهد: أن هذه الشبهة لو كانت صحيحة وقائمةً على منطقٍ صحيح، لدفعت عنهم العذاب، وما حلّ بهم من الله العقاب، وما أذاق المشركين من أليم الانتقام، ومعلومٌ أن العذاب لا يحلّ إلا بمن يستحقّه.
{ قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا} أن مبنى اعتراضهم غير قائم على حجّةٍ أو برهان، وإنما هو الظنّ المجرّد والتخرّص بغير علم، وكذبٌ محض يُراد منه إبطال الشريعة، يقول الشيخ السعدي: " الحجة، لا بد أن تكون حجة مستندة إلى العلم والبرهان، فأما إذا كانت مستندة إلى مجرد الظن والخرص، الذي لا يغني من الحق شيئا، فإنها باطلة، ولهذا قال: {قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا} فلو كان لهم علم -وهم خصوم ألدّاء- لأخرجوه، فلما لم يخرجوه عُلم أنه لا علم عندهم. {إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون} ومن بنى حججه على الخرص والظن، فهو مبطل [ص:279] خاسر، فكيف إذا بناها على البغي والعناد والشر والفساد؟".
والحجّة التي يفتقدها المشركون في اعتراضهم على القدر، والتي طالبهم الله بها، تشمل الحجة العقليّة والنقليّة، وشبهتهم ليس فيها مثقال ذرّةٍ من الصحّة عقلاً، ولا مستندٌ إلهيٍّ نقلاً، وهو المذكور في قوله سبحانه: {أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون}، وبذلك ينتفي المستند العقلي والنقلي لديهم.
{ قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين}، فقد أوضحت الأدلّة ما ينبغي على الناس اعتقاده من الإرادتين معاً، ومن ضرورة الامتثال للشرعةِ الإلهيّة التي تأمرُ وتنهى، وتبيح وتحرّم، وهذا التوازن في النظرة هو الحق الذي ليس بعده إلا الباطل.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " لله الحجة البالغة على خلقه، حين أرسل الرسل إليهم فدعوهم إلى توحيده وشريعته، ومع هذا فلو شاء هدى الخلق أجمعين إلى متابعة شريعته، لكنه يمنّ على من يشاء، فيهديه فضلاً منه وإحساناً، ويحرم من يشاء؛ لأن المتفضل له أن يتفضل، وله أن لا يتفضل، فترك تفضله على من حَرَمه عدلٌ منه وقسط، وله في ذلك حكمةٌ بالغة، وهو يعاقب الخلق على مخالفة أمره وإرادته الشرعية، وإن كان ذلك في إرادته القدرية؛ فإن القدر كما جرى بالمعصية جرى أيضا بعقابها".
وينبغي في هذا المقام أن نبيّن كذلك أوجهاً من فساد هذه الشبهةِ عقلاً، فإن مقولة المشركين تجعل من يعصي الله تعالى مساوٍ لمن أطاعه، وهذا في غاية الفساد وإمعانٌ في الظلم والجور، ولا يمكن أن ترضاه العقول السويّة والفطر المستقيمة، : {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون} (الجاثية:21).
ومن فساد اعتراضهم: أن تذرّعهم بالقدر ليس عادةً مطّردة، ولكنّه مخصوص عندهم بما يصدر من العاصي في حقّ الله سبحانه وتعالى، ويرفضون رفضاً قاطعاً التمسّك بالاحتجاج بالقدر لمن يقوم بالاعتداء عليهم وظلمهم من الناس، ولذلك يُقال لهم: "إن كان القدر حجة فدع كل أحد يفعل ما يشاء بك وبغيرك، وإن لم يكن حجة بطل أصل قولك: إن القدر حجة".
وإنما مثل من يحتج بالقدر في المعاصي، كمثل رجلٍ طارت إلى بيته شرارة، فقال له العقلاء: أطفئها لئلا تحرق المنزل، فأخذ يتذرّع بأن هذه الشرارة قد أتت بها الرياح، وأنّه لا ذنب له بوصولها إلى بيته، وأنها من أقدار الله، وظلّ يُلقي معاذيره حتى ذهبت النار ببيته كلّه، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.
والحاصل أن القدر يُؤمن به ولا يُحتج به –كما يقول العلماء-، العبد مأمور أن يرجع إلى القدر عند المصائب، ويستغفر الله عند الذنوب والمعايب، ومن احتج بالقدر على ما فعله من ذنوبه، وأعرض عما أمره ربّه، فقد خسِر الدنيا والآخرة، نسأل الله أن يعصمنا من الضلال.