لما أكمل الله الدين وأتم النعمة على المسلمين، أجرى الله على نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ سنته الماضية في خلقه: { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } (آل عمران: 185)، فتُوفِّيَّ نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ في يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول من السنة الحادية عشرة من الهجرة، وله ثلاث وستون سنة، وقال ابن حجر: " وكانت وفاته يوم الاثنين بلا خلاف من ربيع الأول، وكاد يكون إجماعاً .. ثم عند ابن إسحاق والجمهور أنها في الثاني عشر منه ".
وهذا اليوم لم يُرَ في تاريخ الإسلام أظلم منه، فكما كان يوم مولده أسعد وأشرق يوم طلعت عليه الشمس، كان يوم وفاته أشد الأيام وحشة وظلاما ومصابا على المسلمين، بل والبشرية جمعاء، قال أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ: " ما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وما رأيت يوماً كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ".
وفي رواية أحمد قال أنس: ( لما كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وقال: ما نفضنا عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأيدي حتى أنكرنا قلوبنا ) .
وقد أشار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على عظم مصيبة موته فقال: ( يا أيها الناس: أيما أحد من الناس أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحدا من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي ) رواه ابن ماجه .
وذلك لأن وفاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليست كوفاة سائر الناس أو الأنبياء، إذ بموته ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ انتهت النبوات، وانقطع الوحي عن الأرض .
قال السندي: " (فليتعزّ) يخفِّف على نفسه مؤونة تلك المصيبة بتذكّر هذه المصيبة العظيمة، إذ الصّغيرة تضمحلّ في جنب الكبيرة، فحيث صبر على الكبيرة لا ينبغي أن يبالي بالصّغيرة ".
وعن أبي بردة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماءَ ما توعد، وأنا أمَنَةٌ لأصحابي، فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنةٌ لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون ) رواه مسلم .
قال النووي: " وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون ) أي من الفتن والحروب وارتداد من ارتد من الأعراب، واختلاف القلوب ونحو ذلك مما أنذر به صريحا، وقد وقع كل ذلك .. قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون ) معناه من ظهور البدع والحوادث في الدين " .
اصبر لكـل مصيـبة وتجلَّد واعلـم بأن المـرء غير مخلَّـد
واصبر كما صبر الكرام فإنها نُوبٌ تنوب اليوم تكشف في غد
أو ما ترى أن المصائب جمـة وترى المنيـة للعبـاد بمرصـد
فإذا أتتك مصيبة تشجى بها فاذكر مصـابك بالنبي محمـد
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ : ( أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مات وأبو بكر بالسُّنح، فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، قالت: وقال عمر: والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك، وليبعثنَّه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم، فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقبله، قال: بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً، والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبداً، ثم خرج فقال: أيها الحالف على رِسْلِك، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وقال: " ألا من كان يعبد محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت "، وقال: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ }(الزمر:30)، وقال: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ }(آل عمران:144)، فنشج الناس يبكون ) رواه البخاري .
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: " والله لكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن الله أنزلها حتى تلاها أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ، فتلقاها منه الناس، فما يسمع بشر إلا يتلوها " .
وقال عمر: " فوالله لكأني لم أتل هذه الآية قط " .
قال ابن رجب: " ولما توفي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اضطرب المسلمون، فمنهم من دهش فخولط، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية " .
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ: ( أن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ دخل على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد وفاته فوضع فمه بين عينيه، ووضع يديه على صدغيه، وقال: ( وا نبياه، وا خليلاه، وا صفياه ، صدق الله ورسوله { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ }(الزمر:30) { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ }(الأنبياء:34)، { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ }(آل عمران: من الآية185) ) رواه أحمد .
قال عثمان: توفي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فحزن عليه رجال من أصحابه حتى كان بعضهم يوسوس، فكنت ممن حزن عليه، فبينما أنا جالس في أطم من آطام المدينة - وقد بويع أبو بكر ـ إذ مَرَّ بي عمر فسلم عليَّ، فلم أشعر به لِمَا بي من الحزن " .
ويقول أنس ـ رضي الله عنه ـ: " قلّ ليلة تأتي عليَّ إلا وأنا أرى فيها خليلي عليه السلام ـ، ويقول ذلك وتدمع عيناه " .
قال أبو ذؤيب الهذلي: " قدمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج أهلوا جميعاً بالإحرام، فقلت: مه؟!، فقالوا: قُبِض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " .
لكن حزن الصحابة وعظيم المصاب لم يخرجهم عن الصبر والتصبر إلى النواح والجزع، فعن قيس بن عاصم قال حين موته: " لا تنوحوا عليَّ، فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يُنَح عليه " .
ومما قاله حسان بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ يبكي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
ما بال عينك لا تنام كأنها كُحِلت مآقيها بكحل الأرمد
جزعا على المهدي أصبح ثاويًا يا خير من وطئ الحصى لا تبعد
وجهي يقيك الترب لهفي ليتني غُيِّبْتُ قبلك في بقيع الغرقد
بأبي وأمي من شهدْتُ وفاته في يوم الاثنين النبي المهتدى
فظللتُ بعد وفاته متبلدا متلددا يا ليتني لم أولد
أأقيم بعدك بالمدينة بينهم؟! يا ليتيي صُبِّحْت سُمَّ الأسود
وقال أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ :
لما رأيت نبينا متجندلاً ضاقت عليَّ بعرضهن الدورُ
فارتاع قلبي عند ذاك لموته والعظم مني - ما حييت - كسير
أعتيق ويحك!! إن خلك قد ثوى والصبر عندك -ما بقيت- يسير
يا ليتني من قبل مهلك صاحبي غُيبت في لحد عليه صخور
فلتحدثن بدائع من بعده تعيا لهن جوانحُ وصدور
وقال عمر ـ رضي الله عنه ـ :
لمّا رأيت النّاس هدّ جميعهم صوتٌ ينادي بالنّعيّ فيسمع
وسمعتُ صوتا قبل ذلك هدّني عبّاس ينعاه بصوت يقطع
فليبكهِ أهل المدائن كلّها والمسلمون بكلّ أرض تُجدع
ورثاه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ـ رضي الله عنه ـ، فقال:
لَقَدْ عَظُمَتْ مُصِيبَتُنَا وَجَلَّتْ عَشِيَّةَ قِيلَ قَدْ قُبِضَ الرَّسُولُ
وَأَضْحَتْ أَرْضُنَا مِمَّا عَـرَاهَا تَكَادَ بِنَـا جَوَانِبُهَا تَمِيـلُ
فَقَدْنَا الْوَحَيَ وَالتَّنْزِيلَ فِينَـا يَرُوحُ بِهِ وَيَغْـدُو جِبْرَائِيـلُ
وَذَاكَ أَحَقُّ مَا سَالَتْ عَلَيْهِ نُفُوسُ النَّاسِ أَوْ كَـادَتْ تَسِيلُ
نَبِيٌّ كَانَ يَجْلُو الشَّكَ عَنَّا بِمَا يُوحَى إِلَيْهِ وَمَـا يَقُـولُ
وَيَهْدِينَا فَلاَ نَخْشَى ضَلاَلاً عَلَيْنَا وَالرَّسُـولُ لَنَـا دَلِيـلُ
أَفَاطِمُ إِنْ جَزَعْتِ فَذَاكَ عُذْرٌ وَإِنْ لَمْ تَجْزَعِي ذَاكَ السَّبِيلُ
فَقَبْرُ أَبِيكِ سَيِّدُ كُلِّ قَبْرٍ وَفِيهِ سِيِّـدُ النَّـاسِ الرَّسُـولُ
إن كل مصيبة دون مصيبتنا بموته ـ صلى الله عليه وسلم ـ تهون، إذ بموته ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ انقطع الوحي من السماء إلى يوم القيامة، وانقطعت النبوات، فهو أول انقطاع عُرَى الدين ونقصانه، ومن ثم ففي موته ـ صلى الله عليه وسلم ـ غاية التسلية عن كل مصيبة تصيب العبد أو تحلُّ بأمة الإسلام جمعاء، وقد شاءت حكمة الله تعالى أن يكون قضاؤه في تجرع الموت بشدته وآلامه أمرا عاما لكل أحد، مهما كانت درجة قربه من الله، حتى يدرك الناس أنه لو كان أحد سلم من الموت لسلم منه خير البشر وأفضل الخلق ـ صلوات الله وسلامه عليه -، قال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (الزمر:30).