من علامات صدق النبوة أن يخبر الرسول عن أشياء غيبية ثم تقع كما أخبر بها، وقد حدثنا النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الباب عن أشياء كثيرة تحقق كثير منها قبلنا، وبعضه يتحقق في حياتنا وبعضه سيحدث لا محالة بعدنا كما في أشراط الساعة وعلاماتها الكبرى..
ومما تحدث عنه النبي صلوات الله وسلامه عليه موضوع بيع الدين.. ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [بادروا بالأعمالِ فتنًا كقطعِ الليلِ المظلمِ. يصبحُ الرجلُ مؤمنًا ويمسي كافرًا. أو يمسي مؤمنًا ويصبحُ كافرًا. يبيعُ دينَه بعرضٍ من الدنيا]... قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: "قد رأيناهم والله يبيع أحدهم دينه بثمن العنز".
على أنني أقول إن كل ثمن يدفع مقابل الدين فهو حقير، وكثمن العنز بل أحقر وأرذل، وإن كان ملك الدنيا كلها.. فكيف وهو في أول الأمر وآخره لعاعة من ملك أو جاه أو منصب أو مال أو انتشار ذكر بين الناس؟!
الشرف المزعوم
لقد كانت بداية بيع الحق والدين منذ بدأ النبي دعوته، وأعلن بين الناس براءته من الأصنام وعبادتها وعبادها، وأعلن بين قريش قولته وصرخته "لا إله إلا الله"، "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا".. وقرأ عليهم القرآن، وتسمَّع له أبو جهل وبعض الزعماء فلما سألوه: ماذا تقول فيما سمعت من محمد؟ قال: وما سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف.. أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحلمنا، وأعطوا فأعطينا حتى تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: "منا نبي يأتيه الوحي من السماء" فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه.
وصدق الله إذ يقول: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا}، {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون}.
رأس المنافقين:
ومثال آخر لبائعي الدين.. ألا وهو عبدالله بن أبي بن سلول.. فقد كان الأوس والخزرج اتفقوا على توليته عليهم، وقد صنعوا له تاج الملك.. وحدثته نفسه بأنه أصبح سيد القوم وملكهم، وتحركت في نفسه وقلبه الأماني، وتخيل نفسه وهو يعيش دور الملك.. لكن حدث ما لم يكن في حسبانه .. فقد هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قبل أن يتوجوه، والتف الناس حول رسول الله ولهوا عن ابن سلول، وبالطبع أسلم المسلمون قيادهم لرسولهم.. فكان ابن سلول يرى أن محمدا سلبه ملكه، فما زال يحاربه حتى نصر الله نبيه في بدر؛ فأدرك ابن سلول أن الأمر قد خرج من يده فقال: "هذا أمر قد توجه"، فدخل الإسلام ظاهرا، ولكن الحقد بقي يأكل قلبه؛ فعاش منافقا ومات منافقا.. وباع الدين.. فما حصل دنيا ولا أخرى، ولكنه حصل الدرك الأسفل من النار.. نعوذ بالله من الخذلان.
الأنفة أخرجته من الدين
كان جبلة بن الأيهم ملكاً من ملوك غسان، دخل إلى قلبه الإيمان، فكتب إلى الخليفة عمر رضي الله عنه يستأذنه في القدوم عليه، فسرّ عمرُ والمسلمون لذلك سروراً عظيماً.. وكتب إليه عمر: أن اقدم إلينا ولك مالنا وعليك ما علينا. فأقبل جبلة في خمسمائة فارس من قومه، ودخل المدينة وقد تزيا بزي الملوك، وأظهر العز والملك والثراء.. ثم دخل المدينة، فلم يبق أحد إلا خرج ينظر إليه حتى النساء والصبيان.
بعد قليل.. ذهب جبلة في صحبة له إلى العمرة.. وبينا هو يطوف بالبيت إذ وطئ على إزاره رجل فقير من بني فزارة، فالتفت إليه جبلة مغضباً فلطمه فهشم أنفه.. فاشتكاه الفزاري إلى عمر بن الخطاب أمير المؤمنين.
فبعث عمر إلى جبلة فقال: ما دعاك إلى أن لطمت أخاك في الطواف فهشمت أنفه؟ فقال: إنه وطئ إزاري؟ ولولا حرمة البيت لضربت عنقه..
فقال له عمر: أما وقد أقررت، فإما أن ترضيه، وإلا اقتص منك.
قال: يقتص مني وأنا ملك وهو سوقة؟
قال عمر: إن الإسلام قد ساوى بينك وبينه.. فما تفضله بشيء إلا بالتقوى.
قال جبلة: إذن أتنصر!! قال عمر: إذا أضرب عنقك، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: [من بدل دينه فاقتلوه].
فقال: أخّرني إلى غدٍ يا أمير المؤمنين. قال: لك ذلك.
فلما كان الليل خرج جبلةُ وأصحابُه من مكة.. وسار إلى القسطنطينية فتنصّر.
فلما مضى عليه زمان هناك، ذهبت اللذات، وبقيت الحسرات، فتذكر أيام إسلامه، ولذة صلاته وصيامه، فندم على ترك الدين، والشرك برب العالمين، فجعل يبكي ويقول:
تنصرت الأشراف من عار لطمة * وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تـكـنـفـنـي مـنـهـا لـجـاج ونـخــوة * وبـعـت لها العين الصحيحة بالعور
فـيالـيـت أمـي لـم تـلـدنـي ولـيتني * رجعت إلى القول الذي قال لي عمر
ويالـيتني أرعى المخاض بـقـفـرة * وكـنـت أسـيرا فـي ربـيـعة أو مضر
ويالـيـت لـي بـالـشام أدنى معـيشة * أجالـس قومي ذاهــب السمع والبصر
ولكنه بقي هناك إلى أن مات على نصرانيته.. فما أغنى عنه جاهه ولا كبره ولا ملكه من الله شيئا.
المؤذن المفتون:
قال القرطبي في كتاب التذكرة: "روى أنه كان بمصر رجل ملتزم مسجداً للأذان والصلاة، وعليه بهاء العبادة وأنوار الطاعة، فرقي يوماً المنارة على عادته للأذان، وكان تحت المنارة دار لنصراني ذمي، فاطلع فيها فرأى ابنة صاحب الدار، فافتتن بها وترك الأذان، ونزل إليها ودخل الدار. فقالت له: ما شأنك وماذا تريد؟ فقال: أنت أريد. قالت: لماذا؟ قال لها: قد سلبت لبي وأخذت بمجامع قلبي. قالت: لا أجيبك إلى ريبة. قال لها: أتزوجك. قالت له: أنت مسلم وأنا نصرانية وأبي لا يزوجني منك. قال لها: أتنصر. قالت: إن فعلت أفعل. فتنصر ليتزوجها، وأقام معها في الدار. فلما كان في أثناء ذلك اليوم رقي إلى سطح كان في الدار فسقط منه فمات، نعوذ بالله ثم نعوذ بالله من سوء العاقبة وسوء الخاتمة.
المحفظ المخذول:
ومن عجائب مصر في زماننا أنه كان رجل حفظ القرآن وعمل محفظا له يحفظه للمسلمين وأبنائهم، ثم إنه توسم فيه رجل من أغنياء النصارى ميلا للدنيا، ورأى فيه مخايل الخداع والختل، فاستماله بماله، ووهب له منه، فترك القرآن وأهله، ولزم القسس والرهبان، وترك مشايخ الإسلام والدعاة ووصفهم بطول اللحى وسعة البطون يستهزئ بهم، في الوقت الذي رؤي مرات وهو يقبل أيدي القسس والرهبان..
وبعد أن كان المسجد حياته إذا به يستبدله بالكنائس والبيع، ويهون عليه أمر المسجد حتى يقول: القاهرة عندي أقدس من القدس، والأهرامات أقدس من المسجد الأقصى، وإذا به يتولى القسس ويتمنى لو كان كاهن النصارى رئيسا لمصر، ولم يكتف بذلك حتى صرح بأن القرآن به ألفاظ تؤذي مشاعر الآخرين (يقصد النصارى) فلا ينبغي استخدامها.. وسبحان مقلب القلوب.
مائة ناقة:
الأعشى بن قيس.. كان شيخاً كبيراً شاعراً.. خرج من اليمامة.. من نجد.. يريد النبي عليه الصلاة والسلام.. راغباً في الدخول في الإسلام.. مضى على راحلته.. مشتاقاً للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.. بل كان يسير وهو يردد في مدح النبي صلى الله عليه وسلم قائلا:
ألم تغـتمض عيناك ليلة أرمـدا * وبت كما بات السليمُ مسـهدا
ألا أيـهـذا السائـلي أين يمـمت * فإن لها في أهل يثرب موعدا
نبي يرى ما لا ترون وذكرُه * أغار لعمري في البلاد وأنجدا
أجدِّك لم تسمع وصـاة محـمد * نبيِّ الإله حيث أوصى وأشهدا
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى*ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله * فترصد للأمر الذي كان أرصدا
وما زال يقطع الفيافي والقفار..يحمله الشوق والغرام.. إلى النبي عليه الصلاة السلام.. راغباً في الإسلام ونبذ عبادة الأصنام..
فلما كان قريباً من المدينة..اعترضه بعض المشركين فسألوه عن أمره؟ فأخبرهم أنه جاء يريد لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم.. فخافوا أن يسلم هذا الشاعر.. فيقوى شأن النبي صلى الله عليه وسلم..
فقالوا له: يا أعشى دينك ودين آبائك خير لك..
قال: بل دينه خير وأقوم..
فقالوا له: يا أعشى!! إنه يحرم الزنا.
فقال: أنا شيخ كبير.. وما لي في النساء حاجة..
فقالوا: إنه يحرم الخمر..
فقال: إنها مذهبة للعقل.. مذلة للرجل.. ولا حاجة لي بها..
فلما رأوا أنه عازم على الإسلام قالوا: نعطيك مائةَ بعير وترجع إلى أهلك وتترك الإسلام؟
فجعل يفكر في المال.. فإذا هو ثروة عظيمة.. فتغلب الشيطان على عقله.. والتفت إليهم وقال: أما المال فنعم..
فجمعوا له مائة بعير.. فأخذها.. وارتد على عقبيه.. وكرَّ راجعاً إلى قومه بكفره.. واستاق الإبل أمامه.. فرحاً بها مستبشراً.. فلما أن كاد يبلغ دياره.. سقط من على ناقته فانكسرت رقبته ومات.
اللهم احفظنا:
فسبحان من بيده مقاليد الأمور، ومفاتيح القلوب يصرفها كيف يشاء.. فاحذر أن تبيع دينك بعرض قليل، وسل الله دائما أن يثبت قلبك على الإيمان، وتعوذ دائما وأبدا من الخذلان، وإياك أن تحسن الظن بنفسك.. فإنها ضعف وعورة وذنب وخطيئة.. ولكن علق رجاءك بالله والزم بابه واطَّرِح بين يديه فلا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه..
وما أحسن ما قال القرطبي:
قال العلماء: إذا كانت الهداية إلى الله مصروفة، والاستقامة على مشيئته موقوفة، و العاقبة مغيبة، والإرادة غير مغالبة، فلا تعجب بإيمانك وعملك وصلاتك وصومك وجميع قربك، فإن ذلك وإن كان من كسبك فإنه من خَلق ربك وفضله الدار عليك وخيره، فمهما افتخرت بذلك، كنت كالمفتخر بمتاع غيره، وربما سُلب عنك فعاد قلبك من الخير أخلى من جوف البعير، فكم من روضة أمست وزهرها يانع عميم، فأصبحت وزهرها يابس هشيم، إذ هبت عليها الريح العقيم.. كذلك العبد يمسي وقلبه بطاعة الله مشرق سليم، فيصبح وهو بمعصيتة مظلم سقيم. ذلك فعل العزيز الحكيم الخلاق العليم.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.. اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك.
ـــــــــــــــــــــــ