هل تغزّل الشعراء بشيءٍ تغزّلَهم بالقمر؟ ألم يجعلوه رمزاً للصفاء والنقاء، والروعة والجمال، والطهر والعفاف؟ إنه القمر، محرّك المشاعر، ومبدّد الأحزان والمخاوف، تشرّف بذكره في القرآن الكريم سبعةً وعشرين مرّة، بل سُمّيت سورةٌ كاملةٌ باسمه، وبلغ من مكانته أن أقسم به ذو العزّة والجلال في ثلاثة مواضع من كتابه فقال: {كلا والقمر} (المدثر:32)، وقال: {والقمر إذا اتسق} (الانشقاق: 18)، وقال كذلك: {والقمر إذا تلاها} (الشمس: 2)، وهو من آيات الله العظيمة: {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر} (فصلت:37).
ولو لم تكن للقمر تلك المكانة العظيمة، ما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (فضل العالم على العابد، كفضل القمر على سائر الكواكب) رواه أصحاب السنن عدا النسائي.
وبين القمر وحياة الإنسان علاقةٌ مشتركةٌ تتمثّل في التشابه بينهما في دورة الحياة، فكلاهما يولد وينمو يوماً بعد يوم، حتى يبلغ كماله وأشدّه –إن جاز التعبير-، وبعد أن يبلغ المنحنى ذروته يبدأ بالنقصان والأفول حتى يختفي تماماً، فأما ابن آدم فيواريه التراب، وأما القمر فيتوارى في سديم الكون المظلم، وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر.
والحديث عن القمر له ارتباطٌ بجانب المعتقد من نواحٍ كثيرة، نخصّ منها علاقته بأشراط الساعة وعلاماتها، ونجد هذا الارتباط مرّتين اثنتين، أولاهما: المعجزة التي أجراها الله سبحانه على يد النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما انشقّ القمر بطلبه، فقد قال سبحانه وتعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر} (القمر:1).
وأما الثانية، فكانت لها علاقةٌ بالمنازل السماوية للقمر، ونجدها في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من اقتراب الساعة أن يرى الهلال قَبَلاً، فيقال: لليلتين) رواه الطبراني في معجميه: الصغير والأوسط، وابن الجعد في مسنده، كما أورده ابن أبي شيبة في المصنّف بنحوه.
والمعنى كما ذكر ابن الأثير وغيره من أصحاب اللغة أن يُرى الهلال ساعة طلوعه لعظمه ووضوحه من غير أن يُتطلّب، فيُظنّ أنه ابن ليلتين، بينما هو في الليلة الأولى، والعرب تقول: رأينا الهلال قَبَلاً، إذا لم يكن رئي قبل ذلك.
وثمّة وصفٌ آخر لذات المعنى، جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من اقتراب الساعة انتفاخ الأهلة، حتى يرى الهلال لليلة، فيقال: لليلتين) رواه الطبراني في المعجم الكبير.
والحديثين السابقين يبيّنان أن من الأدلة على اقتراب الساعة، أن يُرى الهلال عند بدو ظهوره كبيراً، حتى يقال ساعة خروجه إنه لليلتين أو ثلاثة.
ونقول بدايةً: لقد قدّر الله سبحانه وتعالى أن هيّأ للقمر منازل لا يجاوزها ولا يقصر دونها ، قال سبحانه وتعالى: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون} (يونس:5)، ويذكر أهل التفسير أن منازل القمر ثمانية وعشرون منزلاً، ينزل القمر في كل ليلة إحدى تلك المنازل والمواقع، ويستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين، وإن كان الشهر تسعاً وعشرين فيستتر ليلة واحدةً ويُسمّى محاقاً.
وبنزول القمر هذه المنازل الخاصّة به وبشكلٍ منتظم يتمكّن الناس من تحديد الأوقات اليوميّة، فكان الشهر القمري الذي تمسّكت به أمّة الإسلام وصار من خصائصها، وهو رحمةٌ إلهيّة بالناس ورفعٌ للالتباس في المعاش والتجارات والعبادات وغير ذلك مما يُضطرّ فيه إلى معرفة التواريخ.
وأي اختلالٍ في هذه المنازل التي ينزلها القمر يؤدّي بالضررورة إلى اختلاف المواقيت وحدوث الارتباك، ونحن نعلم أن أهل الباديةِ –على سبيل المثال- يعتمدون بشكلٍ كبيرعلى المشاهدة الحسيّة المباشرةِ للقمر في السماء، فيكون هذا التبدّل الشكلي في حجم القمر مُشكلاً بالنسبة إليهم.
أما وقد علمنا المعنى اللغوي المقصود من "انتفاخ الأهلّة" و"أن يُرى الهلال قَبَلاً"، فيحسن بنا أن نتطرّق إلى الجانب الفلكي المفسّر لحدوث هذه الظاهرة المستجدّة، فمن المؤكّد أن حجم الهلال وتدرّجه في منازله له علاقةٌ مباشرةُ بالمواقع المكانيّة لكلٍ من: الشمس والقمر والأرض، ولها علاقةٌ بقدرة القمر على عكسِ أشعّة الشمس التي تصطدم على سطحه، وعلاقةٌ بدخول القمر في الجانب المظلم الذي لا يصله ذلك الضياء، فهذا "الانتفاخ" يعني تغيّراً في حركة الأجرام السماويّة ومواقعها، وما يستتبعه ذلك من تبدّلٍ في نسبة الأشعّة الواصلة إلى القمر، والتي يبدو أنها ستزيد، وبالتالي ستزداد المساحة المضيئة منه، حتى يُرى الهلال ابن الليلة وكأنّه ابن ليلتين، والله أعلم.
وقد جاء في السنّة ما يشير إلى حدوث هذا الانتفاخ مرّةً، فعن أبي البختري قال: خرجنا للعمرة، فلما نزلنا ببطن نخلة تراءينا الهلال، فقال بعض القوم: هو ابن ثلاث، وقال بعض القوم: هو ابن ليلتين، قال: فلقينا ابن عباس رضي الله عنهما، فقلنا: إنا رأينا الهلال، فقال بعض القوم: هو ابن ثلاث، وقال بعض القوم: هو ابن ليلتين، فقال: أي ليلة رأيتموه؟ قال فقلنا: ليلة كذا وكذا، فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن الله مدّه للرؤية، فهو لليلةِ رأيتموه) رواه مسلم وبوّب عليه: "باب بيان أنه لا اعتبار بكبر الهلال وصغره".
والمقصود أن القوم كانوا ينتظرون رؤية هلال رمضان فقاموا يتحرّون رؤيته، فاختلفوا إن كان ابن ليلةٍ أم ابن ليلتين، فذكر لهم ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أن مثل هذا الاختلاف الذي حصل بينهم قد حدث في زمن النبي صلى الله عليه وسلّم فقال لهم: (إن الله مدّه للرؤية، فهو لليلةِ رأيتموه)، والمعنى كما يقول الإمام ابن الجوزي: "لا تنظروا إلى كبر الهلال وصغره، فإن تعليق الحكم على رؤيته".
إذن فقد حصل وقع انتفاخ الهلال ولكن - والله أعلم - أن الذي سيحدث مرّةً أخرى، وسيكون علامة على اقتراب الساعة هو تكرّر هذا الانتفاخ حتى يُصبح ظاهرةً عامّة.