أشرت في المقال الماضي ( الكفاح المستمر) إلى أن من أسوأ ما يُقعد الإنسان عن أن يكون منتجاً وفعّالاً فقده للتركيز على شيء يعتقد أنه من خلاله يستطيع المساهمة في رفعة شأن بلده وأمته, واليوم سأتحدث عما ينبغي فعله لاستعادة ذلك المفقود أو العثور عليه إذا لم يسبق للقارئ امتلاك أي رهان, وذلك عبر المفردات التالية:
- إن أحد الأمور الأساسية التي تميّز الإنسان عن الحيوان ما فطره الله تعالى عليه من تجاوز الحاضر والتطلّع إلى المستقبل، واتخاذه محوراً لتحقيق الإنجازات، والخلاص من كثير من أنواع التعاسة، لكن المستقبل يظل شيئاً لا معنى له إذا لم نكن نعرف بالضبط ما الذي علينا أن ننجزه فيه، وفي هذا السياق يمكن أن أقول: إن الإنسان لا يعثر على مجال لما ينبغي أن يركِّز عليه وعلى مفاصله لأحد سببين:
الأول: عدم معرفة الإنسان بما لديه من مواهب ومهارات وإمكانات، وبما أتيح له من فرص عظيمة، وأود أن أقول هنا: إن هذا القصور شبه عام لدى الناس، وإن معرفتنا بما أشرت إليه ستظل ناقصة ومحدودة.
الثاني: عدم بذل الجهد المطلوب في توظيف المواهب و الطاقات المتوفرة في الحقل المناسب، وهذه أيضاً مشكلة كبرى؛ إذ إن الذين يدخلون الاختبارات التي تكشف عن ميولهم واستعداداتهم المهنية قليلون للغاية، وأقل منهم أولئك الذين يجربون أكثر من مجال كي يصلوا إلى المجال الأليق بهم.
ـ بعض الناس يكون لديهم رهان محدد؛ فهم يعرفون ماذا يريدون، ويعرفون كيف يصلون إليه، وربما عملوا عليه سنوات عدة من حياتهم، لكن طرأت على حياتهم تغييرات كبيرة، جعلتهم يفقدون الاهتمام برهاناتهم أو القدرة على العمل من أجلها في الظروف الجديدة، ومن أهم تلك التغييرات الغربة والانتقال من بلد إلى بلد والمرض والفقر، وأحياناً الثراء الفاحش، وفي مرات كثيرة يكون الإخفاق الذريع هو السبب في ضياع الرهان.
ـ رهانات المثقفين والدعاة وكل الغيورين على هذه الأمة نوعان:
رهان فكري تنظيري: إذ إن من المهم أن يكون لدى كل من يشعر أنه يملك مشروعاً أو رؤية أو اجتهاداً يتعلق بمستقبل الأمة شيء يعتقد أن الأمة تتقدم إذا هي بدأت به أو جعلته بين اهتماماتها الأساسية، وهذا لا يتوفر في العادة عن طريق التفكير المجرد أو المناقشات والمناظرات الساخنة، بل يحتاج إلى ممارسة الكتابة؛ إذ لا فكر من غير إنتاج فكري.
رهان عملي تنفيذي: إذ إن التنظير وحده من غير عدد هائل من الجنود التنفيذيين الذين يحوّلون الأفكار والرؤى إلى خطط ومشروعات عملية.. يكون عبارة عن سفسطة فارغة، لا تسمن، ولا تغني من جوع.
وعلينا أن نقول هنا: إن الواحد منا لا يستطيع خدمة مستقبل الأمة على نحو جيد إلاّ إذا عرف أولوياتها في المرحلة القادمة، وهذا يعني أن يُلمّ التنفيذيون برؤى المنظرين؛ لتكون عطاءاتهم في السياق الأكثر أهمية، وهذا يعني أن يعملوا وفق النظرية القائلة: (فكِّر عالمياً، وتصرف محلياً)، ومن المؤسف أن هذه النقطة لا تلقى إلاّ القليل من الاهتمام والمتابعة .
ـ قد يتساءل بعض الشباب المهتم عن الأمور المساعدة على اختيار الرهان الجيد على المستوى العملي، وللإجابة عن هذا التساؤل أقول:
أ ـ الوضعية المنتجة والجيدة لأي واحد منا وفي أي مجال من المجالات هي الوضعية التي نمتلك ونحن نعمل فيها كلاً من الرغبة القوية والقدرة العالية؛ فإذا وجد المرء مجالاً يمتلك فيه هذين العنصرين فليلزمه، وليطوّر نفسه فيه.
ب ـ الإدارة والاقتصاد والإعلام والتعليم مجالات حية ومزدهرة، والكفاءات الممتازة فيها ليست كثيرة، ويمكن للإنسان أن يقدم فيها للأمة عطاءات لا تُقدّر بثمن.
ـ حاجات الأمة هائلة، والواحد منا مهما كان فذّاً، فإنه لا يستطيع تغيير ملامح الحياة، ولكن يستطيع أن يساهم في ذلك، ولهذا فلا يصحّ أن نزهو بما نقدم، ولا أن نستعجل النتائج.
ـ ليس من الصواب أن نعلق الآمال على ما يمكن أن ينجزه الآخرون حتى لا نقع في مصيدة الأوهام والادّعاءات الكاذبة. الرهان يجب أن يكون على ما نستطيع نحن القيام به فحسب.
ـ إذا اكتشفنا بعد مدة أن ما نركز عليه ليس هو الأفضل والأنفع، فعلينا أن نتحوّل إلى غيره من دون أي شعور بالغضاضة.
ـ الإخلاص يجعل الواحد منا ينتفع بعمله، والإتقان يجعل العمل مفيداً للأمة، والجمع بينهما هو المطلوب في كل حين.
-العيش من غير رهان هو عيش من غير معنى ومن غير ثمرة، ولا يليق بالعظماء إلاّ أن يعملوا وهم في قمة اليقظة وقمة الوعي والفاعلية، ومن كان يظن أنه منهم فليعمل بعملهم.