مواعدة موسى عليه السلام
كان موسى عليه السلام مشوقاً للحديث مع خالقه عز وجل والنظر إليه ، وقد أمره سبحانه أن ينقطع لمناجاته أربعين ليلة؛ تمهيداً لإعطائه التوراة؛ لتكون هداية ونوراً له ولقومه. وقبل أن ينقطع موسى لمناجاة ربه طلب من أخيه هارون أن يخلفه في قومه، وأن يراقبهم فيما يأتون وما يذرون؛ لضعف إيمانهم، واستيلاء الشهوات والأهواء عليهم. ويبدو أن موسى عليه السلام كان متوقعاً شراً من قومه، ولقد صح ما توقعه، فإنهم بعد أن فارقهم استغلوا جانب اللين في هارون، فعبدوا عجلاً جسداً له خوار، صنعه لهم رجل يقال له: السامري.
ولما وصل موسى إلى الميقات الذي حدده له ربه، خاطبه سبحانه من غير واسطة مَلَك، ثم التمس موسى من ربه أن يراه، فأخبره سبحانه أن رؤيته في الدنيا خارجة عن طوق أحد من البشر، وطلب منه سبحانه أن ينظر إلى الجبل، الذي هو أقوى من أي أحد من البشر، فإن استقر مكانه حين يتجلى له، ولا يتفتت من هذا التجلي، فسوف يتمكن من رؤيته سبحانه، وإن لم يستقر الجبل مكانه، بل تزعزع واضطرب، فإن رؤيته سبحانه غير ممكنة في الدنيا .
وحين تجلى سبحانه للجبل على الوجه اللائق بجلاله، لم يثبت الجبل أمام عظمته سبحانه، بل تفتت وسحق، فلما رأى ذلك موسى علم أن لا طاقة له برؤيته سبحانه، وسقط من هول ما رأى مغشياً عليه، كمن أخذته الصاعقة. وعندما أفاق موسى من غشيته، وعاد إلى حالته الأولى، توجه مخاطباً المولى عز وجل: إني أنزه جلالك أن تشبه أحداً من خلقك في شيء، وإني قد تبت إليك من أن أسألك شيئاً خارجاً عن طاقتي، وأنا مؤمن كل الإيمان بعظمتك وقدرتك، وأنه لا قدرة لأحد من البشر أن يراك في هذه الحياة الدنيا.
ثم أخبر سبحانه موسى عليه السلام أنه اصطفاه على الناس الموجودين في زمانه، وأخبره أن من جملة هذا الاصطفاء أنه أنزل إليه التوراة فيها هدى ونور، وأنه كلَّمه بغير واسطة أحد. وأخبره أن يأخذ ما أعطاه من شرف النبوة والمناجاة، وأن يشكر الله على ما أنعمه عليه من نِعم لا تعدُّ ولا تحصى.
وبيَّن سبحانه لموسى أنه ضمَّن التوراة من الأحكام كل شيء يحتاج إليه من أُرسل إليهم، من الحلال والحرام، والمحاسن والقبائح؛ ليكون ذلك موعظة لقومه، وطلب منه أن يعمل بما جاء فيها بكل عزم وحزم؛ لأنه أُرسل إلى قوم طال عليهم الأمد، فقست قلوبهم، وضعفت عزائمهم، وانحرفت نفوسهم، فإذا لم يكن المتولي لإرشادهم وإلى ما فيه هدايتهم ذا قوة وصبر ويقين، فإنه قد يعجز عن تربيتهم، ويفشل في تنفيذ أمر الله فيهم. وختم سبحانه خطابه لموسى بإنذار من يخالف أمره، ويعرض عن هديه، بأن عاقبته أليمة، وحسابه عسير.
قصة موسى وبقرة بني إسرائيل
كان في بني إسرائيل رجل غني، وله ابن عمٍّ فقير لا وارث له، فلما طال عليه موته، قتله؛ ليرثه، وحمله إلى قرية أخرى، فألقاه فيها: ثم أخذ يطلب ثأره، وجاء بناس إلى موسى يدعي عليهم القتل، فسألهم موسى، فجحدوا، فسألوه أن يدعو الله؛ ليبين لهم بدعائه القاتل الحقيقي، فدعا موسى ربه، فأوحى الله تعالى إليه أن يطلب منهم أن يذبحوا بقرة. وقد أمرهم الله تعالى بذبح بقرة دون غيرها من الحيوانات؛ لأنها من جنس ما عبدوه، وهو العجل.
فكان رد القوم على هذا الطلب أن قالوا: أتهزأ بنا، وتسخر منا؟ فأجابهم موسى: إني لا أهزأ بكم، ولا أسخر منكم، فليس هذا من شأني، ولا هو من خُلقي، فلما رأى القوم أنه جاد فيما يقول، طلبوا منه أن يبين لهم حال البقرة التي يُراد ذبحها، فأخبرهم موسى بأن المطلوب أن تكون معتدلة السن، ليست بالصغيرة ولا بالكبيرة. ومع ذلك فقد أبى القوم إلا التنطع في الطب والاستقصاء في السؤال، فأخذوا يسألون عن لونها بعد أن عرفوا سنَّها، فأجابهم موسى بقوله: إن البقرة التي أمركم الله بذبحها صفراء شديدة الصفرة، تُعجب في هيئتها ومنظرها وحسن شكلها الناظرين إليها.
بيد أن هذا الأوصاف التي سألوا عنها لم تغنهم من الحق شيئاً، وأخذوا يسألون عما هم في غنى عنه، فطلبوا من موسى أن يسأل ربه؛ ليزيدهم إيضاحاً لحال البقرة التي أمروا بذبحها، فأجابهم موسى أن من صفاتها أن تكون سائمة، ليست مذللة بالعمل في الحراثة، ولا في السقي، وأن تكون سليمة من كل عيب، ليس فيها لون يخالف لونها. فلما وجدوا أن جميع صفاتها ومميزاتها قد اكتملت، أقروا أن الأمر قد أصبح واضحاً لديهم، وأحضروا البقرة المستوفية لتلك المواصفات فذبحوها. ثم إن موسى أمرهم أن يضربوا القتيل بأي جزء من أجزاء البقرة، فضربوه، فعادت إليه الحياة -بإذن الله- وأخبر عن قاتله.
ورغم عِظَم هذه المعجزة التي تزلزل المشاعر، وتهز القلوب، وتبعث الإيمان في النفوس، إلا أنها لم تؤثر في قلوب بني إسرائيل الصلدة؛ لأنها قد طرأ عليهم بعد رؤيتها ما أزال آثارها من قلوبهم، ومحا الاعتبار بها من عقولهم.
قصة موسى والخضر
قصَّ علينا القرآن الكريم قصة موسى عليه السلام والخضر، وقد ثبت في السنة أن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل ، فسُئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه؛ إذ لم يَرُدَّ العلم إليه، فقال له: بل لي عبد بمجمع البحرين، هو أعلم منك، قال: أي رب! ومن لي به، قال: تأخذ حوتاً فتجعله في مكتل، فحيثما فقدت الحوت، فهو ثَمَّ، فأخذ حوتاً، فجعله في مكتل، ثم انطلق هو وفتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة، وضعا رؤوسهما، فرقد موسى ، واضطرب الحوت، فخرج فسقط في البحر. فانطلقا يمشيان بقية ليلتهما ويومهما، حتى إذا كان من الغد، أدرك موسى التعب والجوع، فطلب من مرافقه أن يحضر له الطعام، فأخبره المرافق أنه قد نسي الحوت عند الصخرة، فرجعا يتبعان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى بثوب، فسلم موسى فردَّ عليه، فقال: وأنى بأرضك السلام! قال: أنا موسى! قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، أتيتك لتعلمني مما علمك الله، قال: يا موسى! إني على علم من علم الله، علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله، علمكه الله لا أعلمه، قال موسى للخضر: هل أتبعك على أن تعلمني مما علمك الله؟ فأجابه الخضر: ليس لك القدرة على مرافقتي والأخذ عني، ثم أخبره موسى أن لديه القدرة على تحمل طلب العلم، والصبر على ملازمة العلماء.
فانطلق موسى والخضر يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهما سفينة، فعرضوا عليهم أن يحملوهما، فعرفوا العبد الصالح، فحملوه بغير أجر، فلما ركبا في السفينة، جاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة أو نقرتين، فقال الخضر: يا موسى! ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر. ثم أخذ الخضر فأساً، فنزع لوحاً من السفينة، فقال له موسى: ما صنعت؟ قوم حملونا بغير أجر، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها؛ لتغرق أهلها، إن هذا لأمر منكر. فقال الخضر: ألم أخبرك يا موسى أنك لا تقدر على متابعتي والأخذ عني، فاعتذر موسى إليه، وأخبره أنه قد نسي ما وصاه به قبل أن ينطلقا معاً.
فلما خرجا من البحر، مروا بغلام يلعب مع الصبيان، فأخذ الخضر برأسه فقلعه بيده، كأنه يقطف شيئاً، فأنكر موسى فعل الخضر، واعترض عليه بقوله: كيف تقتل نفساً لم ترتكب إثماً؟ فردَّ عليه الخضر: لقد أخبرتك في بادئ الأمر أنك غير قادر على متابعتي والأخذ عني. وهنا اعتذر موسى إليه ثانية، ووعده أنه لن يكرر عليه الاعتراض ثانية، وإن هو فعل واعترض، فإنه في حلٍّ من الأمر.
ثم إن موسى والخضر تابعا مسيرهما، فمرا على قرية، وكان الجوع قد أخذ منهما كل مأخذ- فسألوا أهل القرية الضيافة، فأبوا أن يقدموا لهما شيئاً من الطعام، في تلك الأثناء رأى الخضر جداراً مائلاً على وشك السقوط، فعمد إلى إصلاحه وإسناده بالدعائم؛ ليمنع سقوطه، ولم يطلب الخضر من أهل القرية أجراً على عمله، فاستغرب موسى لهذا الموقف، كيف يقوم الخضر بهذا الفعل، مع أن القوم لم يقدموا لهم شيئاً يدفع عنهم غائلة الجوع؟ ثم توجه إلى الخضر وخاطبه بقوله: قوم أتيناهم فلم يطعمونا، ولم يضيفونا، عمدت إلى حائطهم فأقمته، كيف يكون هذا؟ ألم يكن من العدل أن تطلب أجراً على عملك هذا، أو على الأقل أن تطلب طعاماً مقابل ما قمت به من عمل جميل؟ فأجاب الخضر موسى: لقد آن لنا أن نفترق بعد كل الذي حصل، لقد أثبتت الأحداث والوقائع أنك غير قادر على متابعتي وملازمتي، وعلى الرغم من هذا فسوف أخبرك بحقيقة ما فعلت.
ثم أخذ الخضر يقص على موسى الحِكَم والعِبَر من كل ما فعله، فأخبره أن السفينة كانت ملكاً لأناس فقراء، يتعيشون عليها، وكان من عادة قراصنة البحر أنهم كانوا يأخذون كل سفينة صالحة لا عيب فيها، ويتركون كل سفينة فيها عيب أو عطب، فعمد إلى خرقها وإحداث عيب فيها؛ منعاً لأولئك القراصنة من مصادرتها واغتصابها.
أما الغلام فكان أبواه مؤمنين، وكان هو كافراً، وكان يُخشى عليهما منه، فقتله منعاً من أن يفتنا أبويه، ويردهما عن إيمانهما بالله، فإن العاطفة الأبوية قد تجر أحياناً إلى ما لا يحمد عقباه، وقد تدفع المؤمن إلى ترك إيمانه؛ انجراراً وراء تلك العاطفة.
أما إقامة الجدار الذي أشرف على السقوط والتهاوي، فقد كان مخبوءاً تحته كنز لغلامين، ولو سقط الجدار قبل أن يبلغ الغلمان لذهب ذلك الكنز؛ إذ ليس لهما القدرة على الدفاع عن حقوقهما، فكان الغرض من إقامته رعاية حق هذين الغلامين اليتيمين في هذا المال؛ إكراماً لأبيهما الصالح.
وقد ورد بخصوص قصة موسى والخضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وددنا أن موسى كان صبر، فقص الله علينا من خبرهما) متفق عليه.