في كتابه الماتع "هموم داعية"، للشيخ الداعية الكبير الأستاذ "محمد الغزالي" ـ رحمه الله ـ نفثات مصدور، وهبات مكلوم، وصرخات مهموم وإحساس رجل يحمل هم أمته.. كتاب كله حرارة إيمان، ومحبة منهج، وغيرة على دين وأمة.. هذا حال الكتاب جملة، والتفصيل أجمل وأحسن.
في تألق وتأنق، وتحت عنوان "مستقبلنا رهن بوفائنا لديننا"، خط يراع الرجل كلاما أنقى من الذهب، وأحلى من العسل، وأحر من الجمر، وأغلى من كل نفيس.. أبدع فيه من أوله إلى آخره وهو عندي أعظم وأجمل وأنفس ما كتب في كتاب كله نفيس.. ختم الشيخ رحمه الله رحمة واسعة بكلام عن البدائل التي أتانا بها الاستعمار لتحل محل شرعنا وديننا فكان هذا الكلام الذي لا يمكن إلا أن أتركك تقرأه وتتمعن فيه وتتفهمه؛ لأنه يعني الكثير لكل مسلم غيور أو داعية مكلوم مصدور.. يقول الشيخ:
"تفرست في بدائل كثيرة قدمها الاستعماريون لنا كي تصرفنا عن دين محمد صلى الله عليه وسلم، إنها بدائل في ميادين السياسة والاقتصاد والقانون والأخلاق والأدب والسلوك...إلخ.
قالوا: الولاء للتراب الوطني.. قلنا: فنحن نحب أوطاننا ولكن ولاءنا لرب الأرض والسماء!.
قالوا: الولاء للدم والجنس.. قلنا: نحن نحب قومنا ولكن حبنا لربنا أوقى وأوثق، ولا تناقض بين حبنا لربنا وحبنا لأهلنا..!
وبدأت غارات اليهود على فلسطين يؤازرها الحقد الاستعماري القديم! وإذا يهود اليمن والعراق ينضمون إلى يهود بولندا وروسيا في ضربنا.. أين الوطنية المزعومة؟
سبحان الله كأن الوطنية استجلبت لتمزيق الإسلام وحده.. وبدأ الانفصاليون اللبنانيون ينشقون على إخوانهم العرب! وإذا نصارى قادمون من وادي النيل جاءوا لشد أزر المنشقين الغادرين!
إذن المراد الالتفاف بالأمة الإسلامية وحدها ومخادعتها عن رسالتها ومواريثها!
وما هذا..؟ هذا قانون وضعي أجدى من الشرائع السماوية! وما هذا أيضًا؟ هذه تقاليد مستوردة ميزتها أنها واقعية أما تقاليدكم فمثالية أو خيالية.
قبحكم الله، الشيطانة الراقصة في أحضان الأصدقاء والخصوم أفضل من الخفرات التقيَّات!.
إن الحقد كله على الإسلام ونبي الإسلام ورجال الإسلام ودعاة الإسلام، وإن استتر تحت عناوين خدّاعة، وكلمات حديثة.
قلت ومازلت أكرر: إن هذا العصر هو العصر الذهبي للأديان كلها ما عدا الإسلام! أكذوبة كبيرة الزعم بأن الأديان انسحبت تاركة مكانها للإنسانية العامة، وهيئة الأمم وحقوق الشعوب، وشتى المؤسسات البعيدة عن التعصب والجمود. إن الأديان الأرضية والسماوية استغلت هذه المؤسسات لخدمة مآربها، وقد استطاعت أن تدعم قضاياها الثقافية والسياسية دعمًا دفعها إلى الأمام وبقينا نحن وراء وراء..!
إن اليهودية لم تكن في قرن من القرون أقوى منها في هذه الأيام الكالحة، والصليبية التي حاربت الحضارة، وقتلت العلماء وتخلصت من هذه الذكريات وفرضت نفسها بقوة على سياسة الدول العظمى، حتى الوثنية ما تستحي من أصنامها وأوهامها، بل تسخر شارات الدول الحديثة لتكريمها..!
وتلك الجبهات كلها تريد اهتبال الفرصة واقتطاع جزء ما من الكيان الإسلامي الأعزل، يقع ذلك جنوب شرق آسيا، كما يقع في الشرق الأوسط، كما يقع في وسط أفريقية، كما يقع في جنوب أوروبا.
تفاهة دفاع الأمة عن حماها
ومع أن العداوات تطفح من حولنا بالبغضاء والتحدي، فإن القلق لا يخامرني من ضراوة الهجوم، بل يخامرني من تفاهة الدفاع وسذاجته، ومن نوع الحرّاس في مواقع خطيرة أو جريهم وراء المتع.
ويبدو أن أُمتنا نسيت أن استحقاقها للبقاء في الأرض يرتبط بمدى ولائها للإسلام وعملها له!
إنني تابعت احتفال عرب فلسطين "بيوم الأرض" وسمعت كلاً كثيرًا عن الإنسان العربي وكرامته وحقوقه، وعن فلسطين وضرورة تحريرها ورد العدوان عنها...وترقبت أن أسمع كلمة عن الله وعن الإسلام، عن الآباء الذين طردوا الرومان من هذه الأرض! فلم أسمع شيئًا قط!
كيف يقع هذا الذهول! وما المستقبل إذا كان اليهود لا يتحدثون إلا عن حدودهم التوارتية ومواريثهم الدينية!، هل الانتماء اليهودي تقدمية والانتماء الإسلامي رجعية؟!
يجب أن نتوب عن هذه الغفلة وإلا كان ضياع الأبد..!
والانتماء النظري إلى الإسلام لا يكفي، لابد من الارتفاع إلى مستوى الدين في جميع المجالات العلمية والعملية، إن الحكومة جسم روحه الشعب، وفي أقطار الدنيا ترى الروح والجسم مقترنين في كيان الدولة وكأنهما قلب وقالب!.
أما في كثير من أجزاء أمتنا المترامية الأطراف، فالحكم جسد بلا روح، لأن ولاء الشعوب للإسلام واتجاه بعض الحكومات إلى قبلة أخرى، وهذا في ميدان الحياة الخاصة والعامة معناه الموت!!.
إن أسلافنا سادوا الدنيا في العصور الوسطى لأنهم كانوا أعلم وأعدل، فلم يكن رجحان كفتهم مصادفة أو شذوذًا، فإذا استوحشت المعرفة والعدالة في بلادنا فالمصير معروف.
يا حسرتنا على العباد!، يفتخر اليهود بأسلافهم ويستحيون تاريخهم، وننأى نحن عن أسلافنا ونستحي من قرآننا وتاريخنا.
إن أي رجل في أي موقع ينسى الإسلام، ويرخص رسالته ويريد الالتحاق بأي جهة أخرى في الشرق أو في الغرب، لا يمكن أن يتم على يديه نصر، بل سيجر علينا العار والنار: (إِنَّ هَذِهِ تَذكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىَ رَبِّهِ سَبِيلاً) (المزمل:19) .