يظن بعض الصائمين أن الصوم إنما هو صوم عن الطعام والشراب والجماع فحسب، مع أن حقيقة الصوم أعلى من هذا وأجل. فثمة فريق من الصائمين يصوم عن تلك الممنوعات، ويفطر على غيرها من المحرمات. ولعل من أهم المحرمات التي تجعل من الصوم عملاً لا اعتبار له في ميزان الشرع الغيبة. وقد أخبر عليه الصلاة والسلام بقوله: (أتدرون ما الغيبة؟) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (ذِكْرُك أخاك بما يكره)، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول! قال: (إن كان فيه ما تقول، فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بَهَتْه)، رواه مسلم. ومعنى (بَهَته)، أي: قلت فيه البهتان، وهو الباطل.
وفي هذا المعنى أيضاً جاء قوله صلى الله عليه وسلم: (ربَّ صائم حظه من صيامه الجوع والعطش) رواه أحمد وابن خزيمة.
وجاء أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الصوم أمانة، فليحفظ أحدكم أمانته) أخرجه الخرائطي وإسناده حسن.
وروى ابن أبي شيبة عن جابر رضي الله عنه قوله: (إذا صمتَ، فليصم سمعك، وبصرك، ولسانك عن الكذب والمآثم، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صيامك سواء).
وروى ابن أبي شيبة أيضاً عن مجاهد قال: (خصلتان من حفظهما سَلِمَ له صومه: الغيبة، والكذب).
وروى أحمد والدارمي عن أبى عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الصوم جُنَّةٌ، ما لم يخرقها)، قال الدرامي: يعني بالغيبة. وفي هذا الحديث إشارة إلى أن الغيبة تضر بالصيام.
وقد حُكي عن أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها - وبه قال الأوزاعي -: إن الغيبة تُفطر الصائم، وتوجب عليه قضاء ذلك اليوم. وقال سفيان الثوري: الغيبة تفسد الصوم. وأفرط ابن حزم فقال: "يبطله كل معصية من متعمد لها ذاكر لصومه، سواء كانت فعلاً أو قولاً؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (...فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث يومئذ، ولا يصخب، فإن سابّه أحد، أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم) رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) رواه البخاري. وجمهور أهل العلم وإن حملوا النهي (فلا يرفث...ولا يصخب) على التحريم، إلا أنهم خصّوا الفطر بالأكل، والشرب، والجماع.
وقد اعتبر القرطبي أن الغيبة وقول الزور سواء من حيث المعنى، فقال في هذا الصدد: "إن من اغتاب في صومه، أو شهد بِزُور مُفْطِرٌ حكماً، ولا فرق بينهما"، أي: من فعل ذلك فكأنه لم يصم، وليس المعنى أن عليه القضاء؛ ولهذا قال: "وتمامه وكماله - أي الصوم - باجتناب المحظورات، وعدم الوقوع في المحرمات".
وذكر الغزالي كلاماً مؤداه أن الصائم إذا اغتاب، أو شهد زوراً، أو قال كذباً، أو آذى الناس بكلامه، أو فعل نحو ذلك من المناهي الشرعية، فإن صيامه غير مقبول، ولا ينفعه يوم القيامة. وأثار هنا سؤالاً، حاصله: أن من اقتصر على كف شهوة البطن والفرج، ولم يتورع عن الغيبة والكذب ونحوهما، فقد قال الفقهاء: صومه صحيح؟
وقد أجاب عن هذا السؤال بقوله: "فاعلم أن فقهاء الظاهر يُثبتون شروط الظاهر بأدلة هي أضعف من الأدلة التي أوردناها في هذه الشروط الباطنة، لا سيما الغيبة وأمثالها، ولكن ليس إلى فقهاء الظاهر من التكليفات إلا ما يتيسر على عموم المكلفين -المقبلين على الدنيا- الدخول تحته. فأما علماء الآخرة فيَعنون بالصحة القبول، وبالقبول الوصول إلى المقصود".
والحاصل أن الغيبة ونحوها من المناهي الشرعية، تتنافى مع مقاصد الصوم، وهي وإن كانت لا تفسد الصوم وَفْق النظر الفقهي - كما قال جمهور أهل العلم - إلا أنها تفسده وَفْق النظر المقصدي، وتجعله صوماً ناقصاً، لا معنى له. وقد يكون من رحمة الله بعباده، أن لم يجعل الغيبة مفسدة للصوم؛ لأنها مما يشق على الناس تجنبها تماماً، ولا يَسْلَم منها إلا من سلَّمه الله تعالى.