تحدث القرآن الكريم عن (الفقر) و(الفقراء)، وجعل سبحانه الناس جميعاً (فقراء) إليه، وجعل (الفقراء) من الناس أول الأصناف الذين يستحقون الزكاة، وذم سبحانه اليهود الذين وصفوه سبحانه بأنه (فقير) تعالى سبحانه عن ذلك علوًّا كبيراً..
فما هو دلالة لفظ (الفقر) في القرآن الكريم؟ نتعرف على ذلك بعد الوقوف على المعنى اللغوي للفظ (الفقر).
جاء في معاجم اللغة أن لفظ (الفقر) لغة يدل على انفراج في شيء، من عضو أو غير ذلك. من ذلك: الفِقار للظهر، الواحدة فقارة، سميت للحزوز والفصول التي بينها. والفقير: المكسور فقار الظهر، قال أهل اللغة: منه اشتق اسم الفقير، وكأنه مكسور فقار الظهر، من ذلته ومسكنته. فـ (الفقر) مشتق من فقار الظهر، فأصله مصدر فَقَره، إذا كسر ظهره، جعلوا العاجز بمنزلة من لا يستطيع أدنى حركة؛ لأن الظَّهر هو مجمع الحركات، ومن هذا تسميتهم المصيبة فاقرة، كأنها كاسرة لفقار الظهر. ويقال: فَقْر، وفَقَر، وفُقْر، وفُقُر، بفتح فسكون، وبفتحتين، وبضم فسكون، وبضمتين، ويقال رجل فقير، ويقال رجل فَقْر، وصفاً بالمصدر. وقولهم: أفقرك الصيد، معناه: أنه أمكنك من فقاره حتى ترميه. ويقال: فقرت البعير، إذا حززت خطمه، ثم جعلت على موضع الحز الجرير لتذله وتروضه. وأفقرتك ناقتي: أعرتك فِقارها لتركبها. وقولهم: سد الله مفاقره، أي: أغناه وسد وجوه فقره، قال الشاعر:
وإن الذي ساق الغنى لابن عامر لربي الذي أرجو لسدِّ مفاقري
ولفظ (الفقر) في القرآن الكريم ورد في أربعة عشر موضعاً، ورد في جميعها بصيغة الاسم، ولم يرد بصيغة الفعل، من ذلك قوله تعالى: {الشيطان يعدكم الفقر} (البقرة:268).
ولفظ (الفقر) جاء في القرآن الكريم على معنيين رئيسين، ومعنيين فرعيين، هي وفق التالي:
الأول: (الفقر) بمعنى الافتقار إلى الله تعالى، وذلك عام للبشر جميعاً باختلاف أجناسهم وأحوالهم، بل عام للموجودات كلها، وعلى هذا قوله تعالى: {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله} (فاطر:15)، فأخبر تعالى بغنائه عما سواه، وبافتقار المخلوقات كلها إليه، وتذللها بين يديه، قال ابن كثير في معنى الآية: "هم محتاجون إليه في جميع الحركات والسكنات، وهو الغني عنهم بالذات". ومنه قوله عز وجل: {والله الغني وأنتم الفقراء} (محمد:38)، أي: تحتاجون إليه في جميع أوقاتكم، لجميع أموركم. وإلى هذا المعنى من (الفقر) أشار سبحانه بقوله في وصف الإنسان: {وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام} (الأنبياء:8).
الثاني: (الفقر) بمعنى الفقراء من عامة المسلمين، وهو المراد غالباً من هذا اللفظ في القرآن الكريم، من ذلك قوله تعالى مخاطباً أولياء النساء: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله} (النور:32)، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "أمر الله سبحانه بالنكاح، ورغبهم فيه، وأمرهم أن يزوجوا أحرارهم وعبيدهم، ووعدهم في ذلك الغنى". وعلى هذا المعنى أيضاً قوله عز وجل: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} (التوبة:60)، قال ابن عباس رضي الله عنهما في المراد بـ (الفقراء) في الآية: هم فقراء المسلمين.
الثالث: (الفقر) بمعنى الفقراء من المهاجرين خاصة، من ذلك قوله سبحانه: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله} (البقرة:273)، قال ابن كثير: "يعني: المهاجرين الذين قد انقطعوا إلى الله وإلى رسوله، وسكنوا المدينة، وليس لهم سبب يردون به على أنفسهم ما يغنيهم. ومنه أيضاً قوله تعالى: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم} (الحشر:8).
الرابع: (الفقر) بمعنى الطعام، وعليه قوله تعالى على لسان موسى عليه السلام: {رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير} (القصص:24)، روي عن مجاهد وغيره أن موسى عليه السلام "ما سأل ربه إلا الطعام".
أما قوله تعالى: {تظن أن يفعل بها فاقرة } (القيامة:25)، فقد قال مجاهد: داهية. وقال قتادة: شر. وقال السدي: تستيقن أنها هالكة. وقال ابن زيد: تظن أن ستدخل النار.
والحاصل: أن لفظ (الفقر) أكثر ما ورد في القرآن الكريم بمعنى الفقر المادي، وهو المقابل للفظ (الغنى)، وورد أقل من ذلك بمعنى الفقر المادي والمعنوي معاً، أي الافتقار إليه سبحانه والحاجة إليه، وورد بمعنى فقراء المهاجرين خاصة، وجاء مرة واحدة بمعنى الطعام.