تهتم الأمم قاطبة بتاريخها ، وتعنى بأخبار قادتها وزعمائها ، وهي ترى في ذلك تدعيما لأصالتها ، وحفاظا على تاريخها .. ولا عجب أن يهتم المسلمون بتاريخهم ، إذ لا بد أن تعرف الأجيال اللاحقة ما خلفته القرون السابقة من أخبار الهداة المهتدين .
أما سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحياته ، ومعرفة أحواله في الحرب والسلم ، فتلك مسألة لم يقتصر الاهتمام بها على المسلمين وحدهم ، بل شملت غير المسلمين ، ممن أعجبتهم سيرته وإن لم يؤمنوا به ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، أو كانت دراستهم للسيرة بداية خير لهم ..
إن معرفة ودراسة سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر من الأهمية بمكان ، ولقد كان السلف يقدرون لهذه السيرة قدرها ، وكانوا يحفظونها كما يحفظون السورة من القرآن ، ويتواصون بتعلمها وتعليمها لأبنائهم ، فكان علي بن الحسين ـ رضي الله عنه ـ يقول : " كنا نُعلَّم مغازي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما نعلم السورة من القرآن ". .
وكان الزهري يقول : " علم المغازي والسرايا علم الدنيا والآخرة " .
وكان إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ يقول : " كان أبي يعلمنا المغازي ويعدها علينا " ، ويقول : " يا بني هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوها ".
ولا شك أن العلماء ـ قديما وحديثا ـ اهتموا بسيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنه بهديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ تستقيم الحياة ، ويتضح الطريق ، فقد قال الله ـ عز وجل ـ : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً }(الأحزاب:21) ..
ومن أسباب الاهتمام بدراسة السيرة النبوية : تقوية الإيمان واليقين في قلوب المسلمين ، وأنه مهما تكالبت عليهم الأمور ، ومهما قوي الشيطان وجنده فإن لهم في رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسوة حسنة وإن لهم في الصحابة الكرام المثل العملي ..
فعن خباب بن الأرت ـ رضي الله عنه ـ قال : ( شكونا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة ، فقلنا : ألا تستنصر لنا ؟!، ألا تدعو لنا ؟! ، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه ، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه لكنكم تستعجلون )(البخاري) .
كما أن السيرة النبوية تفيد الوقوف على كثير من الأحكام الفقهية ، وتوضح للمسلم حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بدقائقها وتفاصيلها ، منذ ولادته وحتى موته ، مرورا بطفولته وشبابه ودعوته ، وجهاده وصبره وانتصاره على عدوه ، وتظهر بوضوح أنه كان زوجًا وأبًا ، وقائدًا ومحاربًا ، ومربيًا وداعية ، وزاهدًا وقاضيًا ، وعلى هذا فكل مسلم يجد بغيته فيها ..
فالداعية يجد له في سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أساليب الدعوة ومراحلها ، ويتعرف على الوسائل المناسبة لكل مرحلة منها ، ويستشعر الجهد العظيم الذي بذله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أجل إعلاء كلمة الله ، وكيفية التصرف أمام العوائق والعقبات ، وما هو الموقف الصحيح أمام الشدائد والفتن ..
ويجد المربي في سيرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ دروسًا نبوية في التربية من خلال مواقفه مع أصحابه الذين رباهم ، فأخرج منهم جيلاً قرآنيًا فريدًا ، وكوَّن منهم أمة هي خير أمة أخرجت للناس ، وأقام بهم دولة نشرت العدل في مشارق الأرض ومغاربها ..
ويجد العلماء فيها ما يعينهم على فهم كتاب الله تعالى ، لأنها من العلوم الهامة لتفسير القرآن الكريم ، ففيها أسباب النزول لكثير من الآيات فتعينهم على فهمها ، والاستنباط منها ، ومعايشة أحداثها ، فيستخرجون أحكامها الشرعية ، وأصول السياسة الشرعية ، ويحصلون منها على المعارف الصحيحة في علوم الإسلام المختلفة ، وبها يدركون الناسخ والمنسوخ وغيرها من العلوم .. فهناك سور بأكملها تتكلم عن غزوة مثل سورة الأنفال التي تتكلم عن غزوة بدر ، وسورة التوبة التي تتكلم عن غزوة تبوك ، وسورة الحشر التي تتكلم عن جلاء بني النضير، وهناك آيات كثيرة في سورة آل عمران تتحدث عن غزوة أحد ، وحتى تُفهم هذه الآيات جيدا لا بد من دراسة السيرة النبوية ..
ومن خلال سيرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ تُعرف منزلته وشرفه وعصمته ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الناس ، وكيف نزلت الملائكة تقاتل معه يوم بدر ويوم الأحزاب ويوم حنين ..
فسيرته ـ ذاتها معجزة من معجزاته ، وآية من آيات نبوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما قال ابن حزم : .. " .. فإن سيرة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمن تدبرها تقتضي تصديقه ضرورة ، وتشهد له بأنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حقا ، فلو لم تكن له معجزة غير سيرته صلى الله عليه وسلم لكفى .." ..
ومن أهمية دراسة السيرة النبوية التعرف على حياة الصحابة الكرام الذين جاهدوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومن ثم محبتهم والسير على نهجهم واتباع سبيلهم ..
وتزداد أهمية دراسة السيرة النبوية العطرة إذا علمنا أنها لا تتناول رجلاً عاديا ، بل إنها دراسة لتاريخ أعظم مخلوق وُجد على ظهر هذه الأرض منذ آدم وإلى يوم القيامة ـ صلوات الله وسلامه عليه ، الذي قال عنه ربه ـ عز وجل ـ : { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ }(القلم:4)، والذي لن ندخل الجنة إلا خلفه ، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ قال : ( كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى ، قالوا : يا رسول الله ومن يأبَى ؟! ، قال : من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى )(البخاري) .
فإن عرفنا سيرته ونهجه واقتدينا به واتبعناه كانت السعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة ، قال الله تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً }(الأحزاب:21) ، وقال ـ تعالى ـ : { وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا }(النور: من الآية54) ..