العبادة هي الغاية التي خلق الله لأجلها الخلق أجمعين، بل إن المخلوقين أنفسهم سموا عباداً؛ لأن الغاية من وجودهم عبادة خالقهم ومعبودهم، وجميع شرائع الإسلام وأحكامه تسمى عبادة؛ لأن العباد يتقربون بها إلى الله سبحانه، وهي المنجاة لهم يوم يقوم الناس لرب العالمين. والناس كلهم عباد الله، بل الأشياء كلها، بعضها بالتسخير، وبعضها بالتسخير والاختيار.
وبالعودة إلى معاجم العربية، نجد أن الجذر (عبد) يدل على أصلين صحيحين متضادين، أحدهما: يدل على لين وذل، والآخر: يدل على شدة وغلظة.
فمن الأصل الأول: العبد، وهو المملوك، ويُجمع على عبيد. قال الخليل: أجمعوا على التفرقة بين عباد الله، والعبيد المملوكين، فقالوا: هذا عبد بيِّنُ العبودة، ولم يشتقوا منه فعلاً. ولا يقال: (عبد) يعبد عبادة إلا لمن يعبد الله تعالى. فالمتعبد: المتفرد بالعبادة. واستعبدت فلاناً: اتخذته عبداً. ولا يقال: (عبد) بمعنى خدم مولاه. ويقال: تعبد فلان فلاناً، إذا صيره كالعبد له، وإن كان حراً، ويقال أيضاً: أعبد فلان فلاناً، أي: جعله عبداً. ويقال للمشركين: عبدة الطاغوت والأوثان، وللمسلمين: عباد يعبدون الله تعالى.
ومن هذا الباب قولهم: طريق معبد، أي: سهل مذلل.
والأصل الآخر لهذا الجذر: العَبَدة، وهي القوة والصلابة؛ يقال: هذا ثوب له عبدة، إذا كان سميكاً قوياً. وناقة عبدة: قوية.
و(العبادة) في الاصطلاح الشرعي هي: اسم لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة.
ولفظ (عبد) ومشتقاته تواتر بكثرة في القرآن، وبلغ مجموع تواتره أربعاً وسبعين ومائتين موضع، جاء في اثنين وخمسين ومائة موضع بصيغة الاسم، من ذلك قوله تعالى: {والله رءوف بالعباد} (البقرة:207). وجاء في اثنين وعشرين ومائة موضع بصيغة الفعل، من ذلك قوله سبحانه: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} (البقرة:21).
ولفظ (عبد) ومشتقاته جاء في القرآن على عدة معان، نذكر منها ما يأتي:
أولاً: بمعنى المؤمنين والكافرين، من ذلك قوله تعالى: {والله بصير بالعباد} (آل عمران:15)، أي: إنه سبحانه عليم بمن آمن به من عباده، ومن كفر به. ومن ذلك قوله عز وجل: {وهو القاهر فوق عباده} (الأنعام:18).
ثانياً: بمعنى المؤمنين من عباده خاصة، من ذلك قوله تعالى: {والله رءوف بالعباد} (البقرة:207)، قال الطبري: والله ذو رحمة واسعة بعباده المؤمنين في عاجلهم وآجل معادهم، فينجز لهم الثواب على ما أبلوا في طاعته في الدنيا، ويسكنهم جناته على ما عملوا فيها من مرضاته.
ثالثاً: بمعنى الكافرين والعاصين من عباده خاصة، من ذلك قوله سبحانه: {يا حسرة على العباد} (يس:30)، أي: يا حسرة على الكافرين بأنعم الله، والمكذبين لرسله وندامتهم يوم القيامة، إذا عاينوا العذاب، كيف كذبوا رسل الله، وخالفوا أمر الله. ومن هذا القبيل قوله عز من قائل: {وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا} (الإسراء:17).
رابعاً: بمعنى المصطفين والمجتبين من الناس، كالأنبياء وغيرهم، من ذلك قوله تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} (فاطر:32)، أي: اخترنا الخُلَّص من الناس. وعلى هذا النحو قوله عز وجل: {وسلام على عباده الذين اصطفى} (النمل:59).
خامساً: بمعنى سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، من ذلك قوله سبحانه: {وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا} (الجن:19)، أي: لما قام محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الله، تجمع ضده المشركون، وكادوا له كيداً. ومن هذا القبيل قوله سبحانه: {فأوحى إلى عبده ما أوحى} (النجم:10).
سادساً: بمعنى التوحيد، من ذلك قوله تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا} (النساء:36)، أي: ذلُّوا لله بالطاعة، واخضعوا له بها، وأفردوه بالربوبية، وأخلصوا له بالانتهاء إلى أمره، والانزجار عن نهيه. وعلى هذا النحو قوله عز من قائل: {أن اعبدوا الله ربي وربكم} (المائدة:117).
سابعاً: بمعنى الطاعة، من ذلك قوله سبحانه: {فإياي فاعبدون} (العنكبوت:56)، قال الطبري: فأخلصوا لي عبادتكم وطاعتكم، ولا تطيعوا في معصيتي أحداً من خلقي. ونحو ذلك قوله تعالى: {أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون} (سبأ:40). ومجيء لفظ (العبادة) بمعنى (الطاعة) كثير في القرآن.
ومن المفيد أن نشير ختاماً إلى أن لفظ (عبد) وما اشتق منه من ألفاظ في القرآن، يحدده أولاً المعنى الشرعي لهذا اللفظ، ثم يحدده ثانياً السياق الذي ورد فيه، والمعنى اللغوي حاضر عند التدقيق والتأمل. ومن ثم فإن المتأمل، في جميع موارد الجذر (عبد) وما اشتق منه من ألفاظ في القرآن الكريم يلحظ أنه تضمن معناه اللغوي الأوسع، الذي هو الخضوع والذلة، كما تضمن معناه الشرعي بمعنى إفراد الله بالطاعة والعبودية، ثم أخيراً تحدد معناه الأضيق من خلال السياق الذي ورد فيه.