القرآن الكريم كتاب إرشاد وهداية للعباد، فهو لا يكتفي بزجرهم عن كل ما يضر بهم في الدنيا والآخرة، بل يوجه سلوكهم في الدنيا وفق شرعه، وينظم حركتهم بحسب هديه، ويدلهم على كل ما يأخذ بيدهم إلى طريق النجاح والفلاح والفوز في الدنيا والآخرة.
ومن الآيات المؤكدة على هذا المعنى، قوله تعالى: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} (الحج:197)، فقد جاءت هذه الآية في سياق الحديث عن فريضة الحج، وأهم الأعمال التي ينبغي على المؤمن القيام بها. وجاء في سبب نزولها بضع روايات، نستعرضها تالياً؛ لنستشف من خلالها المراد من هذه الآية الكريمة:
الرواية الأولى: روى البخاري في "صحيحه" عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان أهل اليمن يحجون، ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة، سألوا الناس. فأنزل الله تعالى: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}. وهذا أصح ما جاء في سبب نزول هذه الآية. وهي تفيد أن الآية نازلة في أهل اليمن.
وأورد ابن كثير رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان أناس يخرجون من أهليهم، ليست معهم أزودة، يقولون: نحج بيت الله، ولا يطعمنا...فقال الله: تزودوا ما يكفُّ وجوهكم عن الناس. وهذه الرواية لم تحدد أقواماً بعينهم، بل جاءت مطلقة.
الرواية الثانية: روى ابن كثير عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: كانوا إذا أحرموا -ومعهم أزوادهم- رموا بها، واستأنفوا زادا آخر؛ فأنزل الله تعالى: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}، فنهوا عن ذلك. وهذه الرواية أيضاً جاءت مطلقة، ولم تحدد قوماً بعينهم.
الرواية الثالثة: روى الطبري عن عطاء، قال: كان الرجل يخرج، فيحمل كَلَّه -عبأه- على غيره، فأنزل الله تعالى: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}. وهذه الرواية جاء السفر فيها مطلقاً، ولم يأت مقيداً بسفر الحج.
الرواية الرابعة: روى ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حبان، قال: لما نزلت هذه الآية: {وتزودوا}، قام رجل من فقراء المسلمين، فقال: يا رسول الله، ما نجد زاداً نتزوده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تزود ما تكف به وجهك عن الناس، وخير ما تزودتم التقوى". وهذه الرواية جاءت مطلقة حتى من مطلق السفر، بحيث تشمل المقيم غير المسافر.
ولا شك، فإن الرواية المعول عليها في سبب نزول هذه الآية رواية البخاري، وهي صريحة في أن الآية نازلة في أهل اليمن، حيث كانوا يقصدون الحج من غير أن يتزودوا بما يحتاجون إليه من طعام ونحوه، فأمرهم الله بالتزود بالطعام وما يحتاجون إليه في سفرهم، ونبه إلى أن أهم ما يُتزود به في هذه الحياة عموماً، وفي الأسفار خصوصاً، وفي سفر الحج على وجه أخص، إنما هو تقوى الله؛ ولذلك قال: {فإن خير الزاد التقوى}.
والروايات الثلاث الأخر، لا تخالف رواية البخاري، غاية ما فيها أنها جاءت مطلقة، ولم تعين من نزلت الآية في حقهم. وهي تدل على أن الخصوص الذي جاء في راوية البخاري لا عبرة به؛ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقد وردت روايات أخرى مطلقة تدل على أن الخصوص هنا غير مراد؛ كالذي روي عن إبراهيم النخعي، قال: (كان ناس من الأعراب...)، وكالذي روي عن مجاهد، قال: (كانوا يسافرون...)، وفي رواية أخرى له، قال: (كان أهل الآفاق...)، وفي رواية ثالثة له، قال: (كانت قبائل من العرب...).
وظاهر الآية الكريمة، وما جاء في سبب نزولها يفيد أن المراد من الآية، حث من عزم على سفر وحج أن يتزود بأسباب الحياة المادية من طعام وشراب وكساء ونحوها من الضروريات التي لا تستقيم حياة الناس إلا بها، وهذا حق لا ريب فيه، والآية دالة عليه بظاهرها.
بيد أن بعض أهل العلم يرى أن سياق الآية لا يسعف بتلك الدلالة؛ وذلك أن قوله سبحانه: {فإن خير الزاد التقوى} راجع إلى قوله: {وتزودوا} فكان تقديره: وتزودوا من التقوى، والتقوى في عرف الشرع والقرآن عبارة عن فعل الواجبات، وترك المحظورات.
ويمكن أن نوفق بين هذا القول وبين ما جاء في سبب النزول من جانبين:
الأول: أن القادر على أن يستصحب الزاد في السفر -وفي الحج خاصة- إذا لم يستصحبه عصى الله في ذلك، وبحسب هذا، يصح دخوله تحت مفهوم الآية. فيكون عدم تزوده بالأسباب المادية مخلاً بجانب التقوى المأمور بالتزود بها، من جهة أن ذلك ينعكس على قيامه بالعبادات على النحو المحقق للتقوى.
الثاني: أن في الآية حذف تقديره: وتزودوا لعاجل سفركم وللآجل، فإن خير الزاد التقوى.
والذي يغفل عنه كثير من الناس التزود المعنوي، فما أنشط الناس على التزود لأسفارهم بماديات الحياة، بينما آخر ما يفكرون به التزود للحياة الآخرة، والتي هي دار القرار.
وللإمام الرازي في هذا المقام كلام طيب، حيث يقول: "إن الإنسان له سفران: سفر في الدنيا وسفر من الدنيا، فالسفر في الدنيا لا بد له من زاد، وهو الطعام والشراب والمركب والمال، والسفر من الدنيا لا بد فيه أيضاً من زاد، وهو معرفة الله، ومحبته والإعراض عما سواه، وهذا الزاد خير من الزاد الأول...فكأنه تعالى قال: لما ثبت أن خير الزاد التقوى، فاشتغلوا بتقواي يا أولي الألباب، يعني: إن كنتم من أرباب الألباب، الذين يعلمون حقائق الأمور، وجب عليكم بحكم عقلكم ولبكم أن تشتغلوا بتحصيل هذا الزاد لما فيه من كثرة المنافع".
أخيراً، فإن هذه الآية أصل في الأخذ بالأسباب، وأن ذلك لا ينافي التوكل على الله والاعتماد عليه، بل حقيقة التوكل تقتضي طلب الأسباب، وتقتضي كذلك ترك النتائج لمسبب الأسباب، والرضا بما تسفر عنه تلك الأسباب.