لعلَّ من أخطر مظاهر الأزمة الفكرية التي يعاني منها المسلمون في العصر الحديث، وتضع على عقولهم وقلوبهم أقفالاً وحُجُباً، وتصدُّهم عن استئناف الريادة والشهود الحضاري، هو ما يمكن أن نسميه بـ (الطفولة العقلية).
ونعني بالطفولة العقلية: تلك الغشاوة التي تصيب البصائر وتحجب العقول، فتجعلها غير قادرة على إدراك واقع الناس بخرائطه المتشابكة، وتلمُّس احتياجاتهم، ومقاسمتهم همومَهم؛ وغير مؤهلين لإيجاد حلول نافعة ومعالجات مبتكرة للمشكلات والأزمات؛ وغير مُبْصرين لشروط النهضة، ومقاصد الشريعة، وفقه الأولويات، وسُنن التغيير والإصلاح.
فيبدو مَنْ تصيبهم تلك الطفولة - التي ليست مرتبطة بمرحلة عمرية معينة - وهم يتحدثون عن مجتمعهم ويحاولون تشخيص عِلَله وأدوائه، كمَنْ يتحدث عن مجتمع غير الذي يعيش فيه، أو يقصد عالماً من كوكب آخر! وهو ما يجعلهم طوال الوقت يُعنَون بمشكلات ليس لها وجود، أو ليست على مستوى من الأهمية، بينما يتجاهلون كوارث قائمة، تأكل الأخضر واليابس؛ لا تبقي ولا تذر، ويتعامَون عن أخطار تهدد الأمة في وجودها، ومناعتها، وثوابتها.
ولا تزال تلك الطفولة تنمو وتتفشَّى في المجتمع، وتنخر في عافيته، وتخصم من قوَّته، وتُضْعِفُ قدرته على التحدي والصمود والنهوض؛ حتى تصيبَ صفوتَه ومثقفيه، ومن يُناط بهم - بحكم مناصبهم على الأقل - توجيه الرأي العام وغرس القيم. فيغْدُون مُطلِّين على الواقع البئيس من برجٍ عاجي، ومنعزلين عن هموم الناس واهتماماتهم، دون أي إحساس بآلامهم وآمالهم، أو ملامسة مواطن الداء والدواء.
إننا نستطيع أن نتلمس آثار الطفولة العقلية في جملة من المظاهر والأعراض، وهي من الوضوح ومن الأهمية بحيث لا تخطئها عين المراقب، ولا يجوز أن تغيب عن مُريد الإصلاح والتغيير.
وتتمثل أهم هذه المظاهر والأعراض في انعزال النُّخَب المثقَّفة عن واقع المجتمع، الذي من المفترض أنهم جزء منه، ويعبِّرون عنه، ويجسِّدون أحلامه وأشواقه، ويرسمون له طريق النهضة والحضارة.
فبدل أن تكـون هـذه النُّخب (هُدَاةَ طريق) و (أدلاَّءَ خير) و (طليعةَ بعثٍ حضاري)؛ نراهم ينشغلون بقضايا فلسفية محضة، لا تَمُتُّ للواقع بِصِلَة، ولا تمسُّ هموم الأمة من أي زاوية، بل تحلِّق في عالم الخيال والأوهام، وتَسْبح في بحر الأماني والافتراضات!
وتستمر تلك النُّخَب المثقَّفة في انعزالها عن المجتمع شيئاً فشيئاً، حتى تتسع الهُوَّة بينهما، ومن ثَمَّ يفقد المجتمع (عقلَه المدبِّر والموجِّه)، ويكون حينئذٍ جسداً ضخماً بلا رأس، أو كَمْن يسير في طريق وعرة على غير هُدى وبيِّنة؛ فأنَّى له أن يصل إلى غايته؟
وتتجلى هذه المظاهر أيضاً في ضعف الخطاب الديني لغةً ومضموناً، وعدم قدرة هذا الخطاب على مجاراة تطور الحياة والقضايا المستجدة مع المحافظة على الأصول والثوابت، وعدم تقديم رؤية إصلاحية نهضوية تستطيع إصلاح الدنيا بالدين، وتسهم في البناء الحضاري، و (صناعة الحياة)، وغرس قيم الإيجابية والإتقان والإعمار.
كما تتبدى لنا آثار الطفولة العقلية في غياب القدرة على الإبداع والتجديد، وضآلة الإنتاج الفكري خاصة على مستوى العلوم العملية والتطبيقية؛ حتى صارت الأمة تعتمد في غذائها ودوائها وكسائها وسلاحها على الدول الغربية، ولا تستطيع أن تستقلَّ بأية صناعة في المجالات الحيوية؛ الأمر الذي جعل أحد العلماء يذكر متهكماً أنه لو قيل لكل شيء في البلاد الإسلامية: عُدْ من حيث جئت، لسار الناس حفاة عراة لا يجدون - من صنع أيديهم - ما يكتسون، ولا ما ينتعلون، ولا ما يضيء لهم البيوت!
من المؤكد أن ثمة عوامل متشابكة ومترابطة (داخلياً وخارجياً) قد أسهمت في تفشي الطفولة العقلية في واقعنا المعاصر، وإحداث هذه الفجوة الهائلة بين ماضٍ مشرق استطاع المسلمون فيه أن يشيِّدوا حضارات زاهرة ما زالت لها شواهد ناطقة كما في الأندلس، وبين واقعٍ متدهورٍ، يَئِنُّ تحت وطأة مشكلات اجتماعية وسياسية واقتصادية لا حصر لها.
إن رحلة العلاج - كما هو ثابت في العلوم الطبية - تبدأ من دقَّة تشخيص المرض ووصفه، وأيُّ جهدٍ يُبذَل دون الانطلاق من هذه الدقة هو جهد ضائع لا فائدة منه، بل هو جهد يباعد بيننا وبين إدراك الهدف المنشود. فما لم نُحسنْ قراءة الأسباب التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه، ونضعْ أيدينا على جذور المشكلات، ونتدبرْ في أعماق الظواهر والأعراض؛ لنفهم ونحلِّل ونفقه سنن الله المعنوية والمادية معاً؛ فسنظل ندور في حلقة مُفْرغة من الشكوى من مرارة الواقع وبُؤسه، دون الاهتداء إلى الدواء الناجع، والبلسم الشافي.
وإذا اتفقنا على ضرورة المصارحة والمكاشفة، ومواجهة النفس - على مستوى الفرد والمجتمع - بعيوبها وسوءاتها؛ وأنه لا محيص عن ذلك للخروج من منعطفنا الحضاري، فيجب أن نعترف أنه في مقدمة أسباب تلك الطفولة العقلية: الاستبداد السياسي، الذي يتصوَّر الناسَ دائماً أطفالاً لم يبلغوا سنَّ الرشد، ولا يستطيعون إدارة شؤونهم بأنفسهم؛ فيفرض عليهم وصايته، ويمارس عليهم هيمنته، ويحدد لهم طريقاً واحداً في التفكير والحياة، دون أن يعمل على توفير البدائل، وإيجاد فرص متنوعة وخلاَّقة، ودون أن يغرس في الناس أهمية المشاركة في العمل العام، وضرورة تحمُّل المسؤولية تجاه وطنهم وأمتهم؛ الأمر الذي يؤثِّر في الناس بالسلب، ويجعلهم بعد فترة من الزمن ينسون أن لهم عقولاً، وأنهم قادرون على الاختيار، وتحمِّل المسؤولية، وتقرير مصيرهم بأيديهم.
ولعل هذا المعنى هو ما قصده ابن خلدون حين قال مقولته المشهورة: (الظلمُ مُؤْذِن بخرابِ العُمران).
فالاستبداد تظهر وطأته على الإنسان والأشياء، وتنطبع بصماته على العقول والأفكار؛ فيضمر الإبداع، ويُحْجِمُ المصلحون والمفكرون عن الإدلاء بآرائهم خشية أن تصيبهم سطوته، ولا تجد الناشئة والبراعم حينئذٍ مَنْ يأخذ بيدها، وينير لها طريق العلم والحرية. هذا عدا ما يصيب البلاد والعباد من القحط والفقر، وتكدُّس الأموال في يد ذوي النفوذ والسلطان، وما يترتب على ذلك من زيادة الفجوة بين شرائح المجتمع، بما يفقده توازنه، وتماسكه، وتراحمه، وإنسانيته.
ويوم أن افترق السلطان عن القرآن، وصار الحكم مَغْنماً، وتفككت دولة الخلافة، وانتشرت الدسائس خاصة بين السياسيين... تحولت الأمة الإسلامية ذات (الجسد الواحد) إلى دويلات مُمزَّقة مفكَّكة، وصارت شِيَعاً وأحزاباً، يأكل بعضها بعضاً. وما ذلك إلا أثر من آثار الاستبداد، الذي يهلك الحرث والنسل، ويُفسد العمران مثلما يُفسد الضمائر والأخلاق والعقول.
كما أن تراجع الدور الحضاري للإسلام، قد أسهم بدرجة كبيرة في تفشي الطفولة العقلية، وتأخُّر سنِّ الرُّشد الفكري؛ فاختزال الإسلام في الجانب التعبدي مع الغفلة عن المعنى الشامل لمفهوم العبادة، والاحتفاء بالغيبيات التي لا سَنَدَ لها من الكتاب والسنة، والجنوح إلى الخرافات والأوهام تحت مُسمَّى (الكرامات)، والاقتصار على دراسة المتون والحواشي دون تطوير أساليب الدرس والتأليف، وعدم مواكبة المستجدات والواقع المتغير، والعجز عن إدراك الكُلِّيات والمقاصد العامة للشريعة، ودعوى إغلاق باب الاجتهاد، وعدم إدراك الصلة الوثيقة (بل التطابق الكامل) بين كتاب الله المقروء (القرآن) وكتاب الله المنظور (الكون)، والذهول عن سنن الله الثابتة في الأنفس والآفاق... كل ذلك وغيره كان من سمات العقل الإسلامي في عصور التراجع الحضاري؛ التي أوجدت فجوة هائلة بين دين الله ودنيا الناس، وطبَعت العقول على التقليد والمحاكاة، وطمَست فيها القدرة على التجديد والإبداع.
ولم يستطع عقل المسلم المعاصر بَعدُ أن يتخلص كلياً من آثار عصور التراجع الفكري والحضاري، رغم ما بُذِل من محاولات مضيئة لإيقاظه من رقدته وغفلته، والرجوع به إلى صورته الناصعة في القرون الأُولَى. وما زال أمامه عقبات كثيرة يتعيَّن عليه أن يتخطاها، ويبني على ما تحقق فيها من إنجاز.
ثم يأتي من قَبْل ذلك ومن بَعْده الغزو الفكري؛ الذي مثَّل إحدى أذرع الاحتلال العسكري ووسائله في السيطرة والنفوذ، وأدواته في تغيير العقول والأفكار؛ لفَرْضِ نموذجه الفكري، ونمطه الاجتماعي، حتى يستطيع الاحتلال ترسيخ أقدامه، وإضعاف قدرة الشعوب المحتلة على الصمود والمقاومة. وقد استطاع المستشرقون أن يجنِّدوا في بلاد المسلمين تلاميذ مخلصين لهم؛ يتبنون أفكارهم، ويروِّجون لها، ويُلْبسونها ثوبَ العقلانية والحرية والإبداع. وكان بعضهم أشد خطراً على الإسلام من المستشرقين أنفسهم.
وقد استخدم المستشرقون لتحقيق أهدافهم، وتزييف وعي الأمة، وتشويه عقيدتها وتراثها أساليب شتى، من بينها: إثارة الشبهات حول الإسلام (عقيدةً وشريعةً)، وحول اللغة العربية (أدباً وفكراً)، وكان القصد من هذه الشبهات زعزعة الإيمان بالإسلام ولغته، وبقدرتهما على التواصل مع الحاضر، والإسهام في الحضارة الإنسانية مرة أخرى.
كما أثاروا شبهاتهم أيضاً حول التاريخ الإسلامي؛ فصوَّروه على أنه تاريخ نزاعات وصراعات، وتكالُب على الحكم، واضطهاد للأقليات المذهبية والعرقية. وكانت الدراسات الاستشراقية تتخذ عن عمد من بعض الصراعات في تاريخ المسلمين دليلاً وحجةً على فشل النموذج الإسلامي في الحكم وإدارة المجتمع، دون أن تلتفت تلك الدراسات إلى الفرق الشاسع بين الإسلام ديناً سماوياً له العصمة والخلود على مدار الزمان والمكان والحال، وبين فَهْم المسلمين للإسلام، وتطبيقهم له أو ابتعادهم عنه.
ولذلك لا يصح في المنهج العلمي المُنزَّه عن الهوى أن تُحسَب أخطاء المسلمين (مهما بلغت) على الإسلام (الفكرة والمنهج)؛ بل تبقى تلك الأخطاء شاهد صدق على الطبيعة البشرية القاصرة، التي وإنْ أحرزت درجات عليا في الرقي والسمو فلن تبلغ الكمالَ المُطلق؛ لأنه لا يجوز إلا لله سبحانه.
وقد نجحت خطط الغزو الفكري في تحقيق أهدافها إلى حدٍّ بعيد؛ حتى أصبح الالتزام بالإسلام إرهاباً، والدعوة إلى اللغة العربية تخلُّفاً ورجعية! وصار بعض المسلمين يخجلون من إعلان انتسابهم للإسلام وولائهم له، في الوقت الذي يحرصون على الرطن باللغات الأجنبية، ويتباهون بذلك!
لقد كان لإبعاد المسلمين عن الإسلام في نقائه وصفائه، وعن اللغة العربية وآدابها في اتساعها وتنوعها، أثارٌ وخيمةٌ في (جمود الفكر) و (فقر الإبداع)؛ ذلك لأن الإسلام لا يمثل للمسلمين عقيدةً فحسب، بل هو نظام شامل يمدُّهم بتصورات واضحة المعالم والقَسَمات حول الكون، والحياة، والوجود الإنساني وغايته، ويقوم في تقرير ذلك على الحقائق الثابتة لا الظنون والأوهام؛ وهو نظام يُعلي من قيمة العقل، ويحضُّ على التفكير، وينعى على التقليد والجمود، ويدفع الإنسان إلى الحقائق المُطْلقة بالدليل والبرهان. كما أن اللغة العربية هي وعاء هذا الدستور الخالد (القرآن الكريم)، وحاضنة مفاهيمه وقِيَمه، والسبيل إلى فهمه وإدراكه والتفاعل معه بمستوى يليق بعمق تصوراته واتساع حقائقه، ولا غرو؛ فالقرآن هو كتاب العربية الأعظم ، واللغة العربية هي بيانُ القرآنِ المشرقُ المُعْجزُ الخالدُ.
إن من أعظـم آثار الغـزو الفكـري التـي ما زلنا نعاني منها حتى وقتنا الحاضر: أنْ عاش المسلمون مرحلة من (التِّيه الحضاري)، و (الازدواج الفكري)، و (التشتت النفسي)؛ فلم يستطيعوا الاندماج في الحضارات الأخرى، ونقلها بخيرها وشرها، وتعلُّم لغاتها والإبداع بها، مع أن ذلك غير ممكن عقلاً وشرعاً؛ لأن التجارب الحضارية لا تُستنسـخ، ولا تُنقل بالكلية؛ إنما تتلاقح وتتفاعل، ويجوز فقط أن يقتبس بعضها من بعض بصورة ما؛ فلكل بيئة حضارية خصائصُها المميِّزة، وإشكالياتُها الذاتية، وأيضاً حلولُها التي تظل وَقْفاً وحِكْراً عليها؛ بحيث إنه ليس بالضرورة لهذه الحلول أن تؤدي عملها بالفاعلية ذاتها إذا ما نُقلت إلى بيئة حضارية أخرى ذات إشكاليات مغايرة كلياً أو جزئياً.
كما أن المسلمين - نتيجة لهجمة الغزو الفكري والثقافات الوافدة - لم يستطيعوا أن يحافظوا على تراثهم بنقائه وصفائه، ويستفيدوا مما فيه من إبداعات متميزة، وإسهامات فكرية رائدة في جميع المجالات (الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والنفسية، بل وفي علوم الكون والطب والرياضيات أيضاً). وهو التراث الذي ما أيسر أن يتواصلوا معه من جديد، ويبدعوا بلغته الخلاَّقة المتفرِّدة، ويستأنفوا مسيرته الحضارية، ذات الخصائص الربَّانية والإنسانية والأخلاقية.
ولذلك نقول: إنه لا يمكن للمسلمين أن يعودوا مرةً ثانية إلى الرُّشد الفكري، والنُّضج الحضاري، وسابق مجدِهم وتفوُّقِهم العلمي، ولا يمكن للعقل المسلم أن يُزاوج بين المثال والواقع، والحقيقة والخيال، ويستأنف مسيرة الإبداع والتجديد؛ إلا في ظلال الإسلام، وما يصوغه من تصورات ونُظُم ومناهج، وفي رحاب ما تركه علماؤنا السابقون من نهضة فكرية أثْرَت تاريخَ البشرية، وأقامت حضارة متوازنة ومتكاملة؛ لأن الإسلام دين الله الخاتم، وشِرْعَته الباقية، وفِطْرته النقيَّة: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ}.