القرآن الكريم أصدق كتاب عرفته الإنسانية، وأجل نص مكتوب على ظهر الأرض، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من رب العالمين، فهو الكتاب المبين، وهو الكتاب الهادي إلى صراط مستقيم.
ومع كل ذلك، فقد يقف قارئ كتاب الله على بعض الآيات التي تثير تساؤلاً يحتاج إلى جواب، أو تطرح إشكالاً ينتظر حلاً.
ومن الآيات التي ينطبق عليها ما وصفنا، قوله عز وجل: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} (يوسف:106).
لم ير أكثر المفسرين في هذه الآية إشكالاً، بل ذكروا أن الآية نزلت في أهل مكة، آمنوا وأشركوا، كانوا يقولون في تلبيتهم: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك)، ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم إذا سمع أحدهم يقول: (لبيك لا شريك لك)، يقول له: (قط قط)، أي: يكفيك ذلك، ولا تزد (إلا شريكاً). وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعن كثير من التابعين. واعتبروا هذه الآية بمعنى قوله تعالى في آيات أخر: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون} (العنكبوت:61)، وقوله سبحانه: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون} (لقمان:25)، ونحو ذلك من الآيات.
وقد ذكر ابن عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الآية نزلت في أهل الكتاب، الذين يؤمنون بالله، ثم يشركون من حيث كفروا بنبيه، أو من حيث قالوا: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله.
وبحسب هذا المروي والمنقول يكون المعنى: إن الكثير من الناس كانوا مقرين بوجود الإله، بيد أنهم كانوا يثبتون له شريكاً في المعبودية.
وجه الإشكال
رأى الشيخ الشنقيطي في الآية إشكالاً مفاده : أن الآية قررت أن أكثر الناس لا يؤمنون بالله إلا حال كونهم مشركين، فكيف يجتمع الإيمان مع الكفر؟! وبحسب عبارته: إن من المقرر في علم البلاغة أن (الحال) قَيْدٌ لعاملها، وصْفٌ لصاحبها. وجملة {وهم مشركون} جملة حالية، و(العامل) فيها الذي هو يؤمن مقيد بها، فيصير المعنى: تقييد إيمانهم بكونهم مشركين، وهو مشكل؛ لما بين الإيمان والشرك من المنافاة.
الجواب عن هذا الإشكال
أجاب الشيخ الشنقيطي عن هذا الإشكال بقوله: "إن هذا الإيمان المقيد بحال الشرك، إنما هو إيمان لغوي لا شرعي؛ لأن من يعبد مع الله غيره لا يصدق عليه اسم الإيمان البتة شرعاً. أما الإيمان اللغوي فهو يشمل كل تصديق، فتصديق الكافر بأن الله هو الخالق الرزاق، يصدق عليه اسم الإيمان لغة مع كفره بالله، ولا يصدق عليه اسم الإيمان شرعاً. وإذا حققت ذلك، علمت أن الإيمان اللغوي يجامع الشرك، فلا إشكال في تقييده به".
فرُفْعُ الإشكال -وفق الشنقيطي- يكون بحمل (الإيمان) في الآية على معناه اللغوي العام، وهو التصديق، وبذلك لا يكون ثمة تعارض بينه وبين الإشراك بالله، وتصديق الكافر بأن الله خالق كل شيء يصدق عليه مسمى (الإيمان) لغة، وإن كان لا يصدق عليه مسمى (الإيمان) شرعاً.
وأيد الشيخ الشنقيطي ما ذهب إليه بقوله تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} (الحجرات:14). فـ (الإسلام) في الآية هو (الإسلام) اللغوي، الذي هو بمعنى الاستسلام؛ لأن (الإسلام) الشرعي لا يوجد ممن لم يدخل (الإيمان) في قلبه.
هذا محصل كلام الشيخ الشنقيطي. وأصل جوابه ذكره الشيخ ابن عطية، قال: "فهذا الإيمان لغوي فقط من حيث هو تصديقها".
ولم يذكر الشيخ ابن عاشور إشكالاً في الآية، غير أنه ذكر جواباً، يفيد أن ظاهر الآية مشكل، فقال: "فجملة {وهم مشركون} حال من {أكثرهم}. والمقصود من هذا تشنيع حالهم. والأظهر أن يكون هذا من قبيل تأكيد الشيء بما يشبه ضده على وجه التهكم". فالآية -وفق ابن عاشور- ليس المراد منها ظاهرها على الحقيقة، بل هي واردة على سبيل التهكم بالمشركين، وأنها من باب تأكيد الشيء بما يشبه ضده، بغرض التهكم.
والذي ينبغي المصير إليه في هذه الآية ونحوها، الاعتقاد أنه لا إشكال فيها، بل ينبغي فهمها على ضوء غيرها من الآيات، وعلى ضوء ما جاء من آثار في تفسيرها، وعلى ضوء أساليب العربية.