إن الملكات الإنسانية العالية في ندرة المعادن النفيسة من ذهب وماس ولؤلؤ ومرجان.
وإضاعتها خسارة يعز معها العوض المكافئ.
وانهيار التاريخ الإسلامي في القرون الأخيرة يرجع ـ كما أسلفنا ـ إلى ذوبان الكفايات وسط عواصف من الهوى والجحود. وإلى استعلاء نفر من الرجال الذين تقوم ملكاتهم النفسية على إحسان الخطف والتسخير، وربط الأتباع بهم على أساس المنفعة المعجلة!
وشئوننا المادية والأدبية من عدة قرون تدور حول هذا المحور.
فبينما كانت أوروبا تنتفض من خمولها، وتهب الرياح رخاء في أرضها، ويجد العباقرة الفرص مضاعفة أمامهم ليفكروا ويكتشفوا ويخترعوا .
وبذلك تمهد الطريق أمام الذكاء الإنساني الرفيع كي يسير ويشد وراءه القافلة الحانية عليه المعجبة به، في ذلك الوقت نفسه، كان الشُّطار عندنا من القيادات والعمد يتنازعون على حكم المدائن والقرى، ومؤهلاتهم للسيادة المنشودة لا تعدو القدرة على سحق الخصوم.
فكيف تصلح أمة تتكتل أحزابها حول عصبية السلطان المسروق بدل أن تتجمع حول مثل عالية، ومبادئ نبيلة؟
لقد جنت علينا هذه الأحوال يقيناً، من طول بقائها في بلادنا تأخراً في المظاهر الأولى للعمران ، بله تأخراً في مجال الإجادة والابتكار. وفي أثناء مغيب الحرية عن بلد ما، يقل النقد للأغلاط الكبيرة، أو يختفي، وتضعف روح النقد عموما، أو تتوارى.
وهذه حال تمكن للفساد، وتزيد جذوره تشبثاً بالبيئة العليلة. وحاجة الأمم للنقد ستظل ما بقي الإنسان عرضة للخطأ والإهمال، بل ستظل ما بقي الكملة من البشر يخشون ويخافون الحساب!
ومادامت العصمة لا تعرف لكبير أو صغير، فيجب أن يترك باب النقد مفتوحاً على مصراعيه . ويجب أن يحس الحاكم والمحكومون بأن كل ما يفعلون أو يذرون موضع النظر الفاحص والبحث الحر . فإن كان خيرا شجعوا على استدامته . وإن كان شرًّا نبهوا إلى تركه، وحذروا من العودة إليه، بعد أن يرفع الغطاء عن موطن الزلل فيه . وقيمة النقد في إحسان الأعمال وضمان المصالح لا ينكرها عاقل. وإنما هلكت الأمم الهالكة لأن الأخطاء شاعت فيها دون نكير، فما زالت بها حتى أوردتها موارد التلف. ونحن لا نحب لأمتنا هذا المصير.
إن أغلب الناس إذا أمن النقد لم يتورع عن التقصير في عمله، ولم يستح من إخراجه ناقصاً وهو قدير على إكماله! وقد كان خالد بن الوليد بصيراً بهذه الطبيعة عندما أعاد تنظيم الجيش الإسلامي في موقعة اليرموك على أساس تمتاز به كل قبيلة، وينكشف به صبرها وبلاؤها، وتحمل به تبعتها من النصر والهزيمة، تبعة غير عائمة ولا غامضة . .
وكانت التعبئة الأولى للجيش تخلط بين الناس في كيان عام، وتتيح لأي متخاذل أن يفر من معرة التقصير، فلا يدرى بدقة: من المسئول؟ وعقل الألسنة عن الكلام في عمل الاستبداد والمستبدين ضيع على أمتنا مصالح عظيمة خلال الأعصار السابقة. إذ طمأن العجزة والمفسدين، وجعلهم يسترسلون في غيهم، فما يفكرون، في إطراح كسل، ولا ترك منقصة . . . أما الحريات التي تقدسها الأمم الديمقراطية - التي نادى بها الإسلام قبلاً- فإنها مزقت الأغطية عن كل الأعمال العامة، وجعلت الزعماء ـ قبل الأذناب ـ يفكرون طويلا قبل إبرام حكم، أو إنفاق مال ، أو إعلان حرب، أو ابتداء مشروع كبير .
بل جعلتهم في مسالكهم الخاصة يوجلون من أي عمل يثير حولهم القيل والقال . . .
ولا شك أن هذه الحريات حاجز قوي دون وقوع العبث بشئون الأمة، أو نذير بتقصير أجله إذا وقع، ومؤاخذة أصحابه بغير هوادة. ولو نظرنا إلى الحرب العالمية الثانية لوجدنا في أحداثها ما يستدعي العبرة، فقد انتصر الألمان في مراحلها الأولى انتصاراً خطيراً، بيد أن خصومهم سرعان ما شرعوا يستفيدون من أخطاء الحكم الفردي القائم ضدهم.
وكانت هذه الأخطاء من الجسامة بحيث نستطيع اعتبارها السبب الأول في انكسار القوم.
لقد حارب هتلر الروس ضارباً بآراء قواده عرض الحائط، فكانت هذه أولى مصائبه.
تم رفض خطة أولئك القادة لمنع نزول الحلفاء بشواطئ فرنسا، ونفذ خطة من تفكيره هو وتفكير بعض متملقيه، فكان أن فتحت الجبهة الثانية. ثم وقع الألمان بين شقي الرحى. وتحول انتصارهم الأول اندحاراً من أبشع ما روى التاريخ .
ذلك أن الأمور لا تصلح أبداً برجل واحد يدعي العلم بكل شيء، ويعتقد أن العناية حبته بما حرمت منه سائر الخلق . . .!! ويؤسفنا أن نقول: إن تاريخنا العلمي والاجتماعي والسياسي كان ينزل خلال القرون الأخيرة من مزالق إلى منحدرات، ومن منحدرات إلى هاويات؛ لأن أزمة النشاط المادي والأدبي كانت في أيدي أفراد يكرهون النقد، ولا يحبونه من أحد، ولا يسمحون بجو يوجده وينعشه .
والغريب أن هؤلاء الرجال ـ عندما يوزنون بحساب النبوغ والقدرة ـ لا ترجح بهم كفة.
فكيف يصلح بهم وضع، أو تقوم بهم نهضة، أو تنشط بهم قوة للبناء والإنتاج؟!
حاجة المسلمين إلى الحريات البناءة ـ في تاريخهم الأخير ـ أزرت بهم، وحطت مكانتهم،
على حين نعمت أجناس أخرى بتلك الحريات، فتحركت بقوة، ثم اطرد سيرها في كل مجال، فإذا هي تبلغ من الرفعة أوجاً يرد الطرف وهو حسير.
وزاد الطين بلة شيء آخر، أننا عندما اتصلنا بالغرب في أثناء القرنين الماضيين، وشعرنا بضرورة الاقتباس منه والنقل عنه، كانت أفهامنا من الصغار ـ ولا أقول من الغفلة ـ بحيث لم تلتفت إلا للتوافه والملذات .
فالحرية التي تشبثنا بها، ليست هي حرية العقل في أن يفكر ويجد ويكتشف،
بل حرية الغريزة في أن تطيش، وتنزو، وتضطرم. وسرعان ما احتلت الملابس الأوروبية أجسامنا، والأثاث الأوروبي بيوتنا، والعادات الأوروبية ـ في الأكل والنوم ـ أحوالنا . . .
أما تألق الذهن! وجودة التفكير، وإطلاق القوى البشرية من مرقدها تسعى وتربح فذاك شأن آخر.
ومن السهل على القردة أن تقلد حركات إنسان ما، أفتظنها بهذا التقليد السخيف تتحول بشراً؟! ولقد رأينا المسنين من الرجال، والأحداث من العيال، يأخذون عن أوروبا الكثير من مظاهر المدنية الحديثة، وهي مظاهر نبتت خلال حضارة الغرب كما تنبت "الدنيبة" خلال حقول الأرز. إنها شيء آخر غير حضارة الغرب التي ارتفع بها واستفاد منها.
فهل هذا الأخذ الغبي رفع خسيستهم، أو دعم مكانتهم؟
كلا، إنهم ما زادوا إلا خبالاً . والواقع أن اليابان نهضت نهضة كبرى في أواخر القرن التاسع عشر للميلاد. والصين نهضت نهضة أشمل وأخطر في منتصف القرن العشرين.
وكلتا الأمتين حرصت على تقاليدها الخاصة في اللباس والطعام وما إليهما، وعبت من مناهل المعرفة الحقيقية ما غيَّر حالتها تغييراً تامًّا. أما نحن فقد هجرنا الموضوع إلى الشكل، بل تخبطنا فيما ندع وننقل على حساب ديننا وتاريخنا، فلم نصنع شيئا .
الحرية التي نريدها ليست في استطاعة إنسان ما، أن يلغو كيف شاء! فما قيمة صحافة تملأ أوراقها بهُراء لا يصلح فاسداً، ولا يقيم عوجاً؟! الحرية التي نريدها ليست في قدرة شاب على العبث متى أراد.
فما قيمة أمة تصرف طاقات الأفراد في تيسير الخنا وإباحة الزنا؟ الحرية التي يحتاج إليها العالم الإسلامي تعني إزالة العوائق المفتعلة من أمام الفطرة الإنسانية، عندما تطلب حقوقها في الحياة الآمنة العادلة الكريمة، الحياة التي تتكافأ فيها الدماء، وتتساوى الفرص، وتكفل الحقوق، وينتفي منها البغي، ويمهد فيها طريق التنافس والسبق أمام الطامحين والأقوياء، ويمهد طريق الاندثار والاستخفاء أمام التافهين والسفهاء، فلا يكون لهم جاه، ولا يقدس لهم حمى.