الحياء خلق الإسلام , وقرين الإيمان , ومفتاح كل خير , وهو من أعظم الأخلاق التي تنأى بالعبد عن الرذائل , وتحجزه عن الوقوع في سفاسف الأمور , كما أنه من أقوى البواعث على الفضائل , وطلب معالي الأمور , ومن الأحاديث الجامعة التي تحث على هذا الخلق العظيم , وتبين منزلته وآثاره , حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : إذا لم تستح فاصنع ما شئت ) رواه البخاري.
فهذه الوصية العظيمة بالحياء , مما أثر عن الأنبياء المتقدمين , وتوارثه الناس عنهم , وتداولوه فيما بينهم قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل , حتى وصلت إلى هذه الأمة .
وقوله عليه الصلاة والسلام ( إذا لم تستح فاصنع ما شئت ) قال بعض العلماء : إنه أمر جاء على سبيل التهديد والوعيد , فيكون المعنى إذا لم تستح من الله فاصنع ما شئت , فإنه سيجازيك ويحاسبك عليه , كقوله تعالى : { اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير } (فصلت 40) . ويحتمل أن يكون على سبيل الإخبار , ويكون المعنى أنك إذا فقدت الحياء فستفعل ما يحلو لك , ولن يكون هناك ما يمنعك من فعل القبائح بعد ضياع الحياء .
وحقيقة الحياء أنه خلق يبعث على ترك القبائح , ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق , وهو مما ميز الله به الإنسان عن سائر المخلوقات , لكي لا ينساق وراء دواعي الشهوة , ونوازع الهوى , التي تدعوه إلى الوقوع فيما يُسْتَقْبَح , فإن البهائم هي التي تهجم على ما تشتهي دون حياء أو روِيَّة , ولذلك فإن بين اقتراف الذنوب وبين قلة الحياء وعدم الغيرة تلازم وارتباط وثيق , وكل منهما يدعو إلى الآخر , فإذا قل حياء المرء لم يبال بما اقترف من ذنوب , ومن عقوبات الذنوب نزع الحياء وقلته .
والحياء نوعان :
النوع الأول : حياء جِبِلِّيّ فطري : وهو ما كان فطرة وجبلة في الإنسان , وهو من أعظم النعم التي يمن الله بها على من يشاء من عباده , لأنه لا يأتي إلا بالخير للعبد , فإن بعض الناس قد يكف عن القبائح والمعاصي ابتداءً لما فطر عليه من الحياء , ومنه قوله عليه الصلاة والسلام لأشجِّ بني عصر : ( إن فيك خُلَّتين يحبهما الله عز وجل , قلت : ما هما ؟ قال : الحلم والحياء , قلت : أقديما كانتا فيَّ أم حديثا ؟ قال : بل قديما , قلت : الحمد لله الذي جبلني على خُلَّتين يحبهما الله عز وجل ) رواه أحمد .
النوع الثاني : حياء مكتسب : وهو من أعلى خصال الإيمان , ودرجات الإحسان , وهو الذي يمنع المؤمن من ارتكاب المعاصي خوفا من الله عز وجل , وهو الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث حسن رواه الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( استحيوا من الله حق الحياء , قلنا : يا رسول الله , إنا نستحيي والحمد لله , قال ليس ذاك , ولكن الاستحياء من الله حق الحياء , أن تحفظ الرأس وما وعى , والبطن وما حوى , ولتذكر الموت والبلى , ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا , فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء ) .
وإذا فقد العبد الحياء بنوعيه لم يبق له ما يمنعه من الوقوع في القبائح المعاصي , قال مالك بن دينار رحمه الله : "ما عاقب الله تعالى قلبا بأشد من أن يسلب منه الحياء " .
ومما يبعث على الحياء , ترادف نعم الله على العبد , وتوالي إحسانه إليه , فإن الكريم لا يقابل الإحسان بالإساءة , ولو تفكر العبد في نعم الله عليه لمنعه ذلك من عصيانه حياء منه , يقول الجنيد رحمه الله : " الحياء رؤية الآلاء ورؤية التقصير فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء " , وإذا كان الواحد منا يستحيي ممن صنع إليه معروفا أن يقابله بالنكران والإساءة , فكيف لا يستحيي من ربه واهب النعم التي لا تحصى , وفي ذلك يقول القائل :
هــب الـبعث لم تأتـنا رُسْله وجـاحمة النار لم تُضرَمِ
أليس من الواجب المستحق حياء العباد من المنعم ؟!
والحياء منه الممدوح ومنه المذموم , وإنما يُعْرَفُ ذلك بثمرته , فإذا دعاك إلى الخير فهو المحمود , وإذا دعاك إلى غير ذلك , فهو العجز والخور والضعف والمهانة , وهو من خداع الشيطان وتلبيسه , كالحياء الذي يترتب عليه كتمان الحق , أو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , أو القعود عن طلب العلم والدعوة إلى الله , وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدَّ حياء من العذارء في خِدْرها , ومع ذلك لم يمنعه حياؤه من القيام بتكاليف الدين والدعوة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خير قيام .
بذلك تكون هذه الوصية بالحياء قد جمعت الخير من أطرافه , فعلى المسلم أن يفهم معنى الحياء الشرعي , وأن يجعله خلقا وسلوكا في حياته , وإن كان قد جُبِل عليه فليحمد الله على هذه النعمة , وإن لم يكن فيه فليحرص على اكتسابه وتحصيله.