تعيش المنطقة العربية الآن أزمتين كبيرتين. أزمة تخص السودان المهدد بالانقسام والتفتت، أولا من خلال انفصال الجنوب، وثانيا من خلال بروز المشكلة نفسها في ما يخص دارفور ومنطقة أبيي. والأزمة الثانية تخص مصر من خلال بروز مشكلة مياه النيل، وتكتل ست دول أفريقية باتجاه إعادة اقتسام مياه النيل على حساب حصة مصر المكرسة تاريخيا.
وتمس هاتان المشكلتان بلدين عربيين هما الأوسع مساحة والأكثر سكانا، وبما يقارب ربع تعداد الأمة العربية كلها. وهي تمس بالذات مصر التي تحتل مكانا قياديا بين الدول العربية؛ إذا هي أرادت. وتمس السودان الذي هو بوابة العرب إلى أفريقيا. ويكفي أن نقول هنا إن السودان يجاور، ومن خلال الجنوب، سبع دول أفريقية. يضاف إلى ذلك كله ما لمصر بالدرجة الأولى، وما للسودان بعدها، من تأثير على العلاقات العربية - الأفريقية. فمصر القائدة للعرب هي أيضا قائدة كبيرة في أفريقيا، ليس بحكم وزنها فقط، بل بحكم مواقفها السياسية التاريخية التي ساندت حركات الاستقلال والتحرر في أفريقيا، وكذلك بحكم علاقاتها الثقافية والتعليمية مع أفريقيا، بدءا من الأزهر ودوره، وانتهاء ببعثات التعليم المصرية في أفريقيا، أو باستقبال طلاب العلم الأفارقة في الجامعات المصرية.
على ضوء هذه الوقائع، وعلى ضوء المواجهة العربية - الإسرائيلية الدائمة، سواء ببعدها السياسي أو ببعدها العسكري، كان لا بد لإسرائيل أن تدخل على الخط، وأن تعمل على رسم سياسة لها تضعف كلا من مصر والسودان، ثم يتم تجيير هذا الضعف لمصلحة إسرائيل. وهنا اتبعت إسرائيل منذ بداية وجودها التكتيك السياسي المعروف، وهو الذهاب إلى الحديقة الخلفية لأي بلد تواجهه، من أجل الضغط عليه أو إضعافه. وتطبيقا لهذه السياسة، ومن أجل الضغط على مصر أولا، ذهبت إسرائيل أول ما ذهبت إلى إثيوبيا أيام الإمبراطور هيلا سيلاسي، فأقامت معها علاقات تعاون، وقدمت لها خدمات، وأنشأت شبكات لجمع المعلومات، أو لتشغيل المتعاونين حسب مصالحها. وحين استقلت إريتريا بعد ثورة مديدة، لم تستطع أن تنال الاستقلال إلا بعد أن قبلت قياداتها المتأخرة بالتلاقي مع السياسات الأميركية، ودخلت إسرائيل على خط إريتريا، وعملت فيها بالاتجاه نفسه؛ أي محاصرة مصر سياسيا من الخلف، ثم التركيز على ما هو أهم، أي الوجود على شواطئ البحر الأحمر قريبا من مصر والسودان والسعودية.
أما بالنسبة إلى السودان، فقد اهتمت إسرائيل بأحداثها منذ استقلالها في منتصف الخمسينات، وبخاصة أن مشكلة جنوب السودان بدأت منذ ذلك الوقت تقريبا، وعبر حركات تمرد متتالية لم تكن إسرائيل بعيدة عنها.
وعلى الرغم من هذا النشاط الإسرائيلي المبكر، فإن تأثيره لم يكن فاعلا بسبب الحيوية السياسية العربية التي كانت قائمة ومتفاعلة مع دول أفريقيا وحركات تحررها. ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما حدث أثناء حرب عام 1973، إذ أدى النفوذ العربي في أفريقيا عشية الحرب، إلى موقف أفريقي شبه شامل، أعلن تأييده لمصر وللعرب، وأعلن عداءه لإسرائيل، وعبرت بعض الدول الأفريقية عن موقفها بقطع العلاقات مع إسرائيل.
ولكن منذ الثمانينات وما تلاها، ومنذ اتفاق كامب ديفيد بشكل خاص، بدأت سياسة مصرية جديدة تميزت بتقليل درجة الاهتمام بأفريقيا وشؤونها. وبدأت بالمقابل سياسة إسرائيلية جديدة زادت من اهتمام إسرائيل بشؤون أفريقيا. وتركز الاهتمام الإسرائيلي على تغذية كل تمرد، أو كل خلاف، يؤدي إلى إضعاف أي نظام عربي. ففي السودان مثلا توسع التدخل الإسرائيلي مع حركة التمرد في جنوب السودان، وشجع التدخل الإسرائيلي نزعة انفصال الجنوب عن الشمال. أما بالنسبة لمصر فقد حدث ما هو أخطر، فقد تدخلت إسرائيل وشجعت دول منبع نهر النيل على إنشاء سلسلة من السدود، ومن دون تفاهم مسبق مع مصر، حتى وصلت الأمور إلى درجة تهديد أمن مصر القومي في ما يتعلق بمياه نهر النيل.
ومن الضروري التوضيح هنا، أن إسرائيل إذ تقيم علاقات مع دول أفريقية، فإنها تستطيع أن تقيمها كعلاقات عادية بالاعتماد على نفسها، أما عندما تقيم علاقات ذات صلة بمشاريع التغيير الاستراتيجية، أو بحركات التمرد وأهدافها، فإن الأمور لا تتم من دون تنسيق دولي، وتنسيق إسرائيل في الساحة الدولية هو في الأساس تنسيق مع السياسة الأميركية، وهو ما بدأ يظهر جليا في معالجة أزمة دارفور، وفي تشجيع أميركا لانفصال جنوب السودان، وفي بروز التهديد الأميركي المتعاظم للنظام السوداني في الخرطوم.
أما أن يكون لإسرائيل كل هذا الاهتمام باللعب في الحديقة الخلفية للدول العربية، ولمصر والسودان بالذات، فهو أمر مفهوم في نزاع الدول وصراعاتها. ولكن الأمر بالنسبة لإسرائيل أكثر اتساعا من ذلك، فإسرائيل ومنذ ما قبل تأسيسها بحثت ودرست إمكان العمل على تقسيم دولة لبنان. وهناك المثل الإسرائيلي الآخر الذي يتعلق بالعراق، حيث التخطيط السري المبكر لتهجير كل من تبقى من الفلسطينيين فوق أرض وطنهم، إلى العراق. أما حين تم احتلال العراق من قبل الأميركيين، فقد كانت إسرائيل أول من توجه إلى هناك وبدأت حرب اغتيالات سرية ضد العلماء العراقيين. فسعيها للتفتيت في المنطقة العربية سعي قديم، ولكنه يلتقي أيضا مع ما قيل بصدد سياسات هنري كيسنجر والسعي إلى تفتيت المنطقة حسب الطوائف والإثنيات.
ولكن مراقبة دقيقة للوضع في السنوات الأخيرة، ترشدنا إلى ملاحظة هامة، إذ بينما كان التكتيك الإسرائيلي يعمل على سياسة التطويق لتقوية نفسها في وجه العرب، فإنها الآن تواصل السياسة نفسها من أجل تحسين دفاعها عن نفسها. إن تطورات الوضع العالمي والإقليمي، إضافة إلى نتائج حروب إسرائيل الأخيرة في لبنان وغزة، وما كشفت عنه تلك الحروب من وجود أسلحة جديدة قادرة على تهديد الداخل الإسرائيلي، وضعت إسرائيل في موقف دفاعي لا في موقع هجومي. ويلعب نمو القوى الإقليمية في المنطقة، من إيران إلى تركيا، دورا أساسيا في هذه السياسة الدفاعية الجديدة.
وينقص هذا المشهد أمر واحد أساسي، هو قيام نشاط سياسي عربي مكثف، يدافع عن مصالح العرب ضد سياسات أفريقية غير مقبولة. وليس المطلوب هنا مواجهات وصدامات، إنما المطلوب أن يعود العرب إلى دورهم الإيجابي في أفريقيا، ومع كل دولة أفريقية، وهم قادرون على ذلك لو أرادوا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشرق الأوسط