حين دلف إلى "مكتب رئيس الحكومة" لأول مرة في العام 1996، تلقى بينيامين نتنياهو النصح من فريق من الباحثين والخبراء كان شكّله برئاسة ريتشارد بيرل أحد عتاة المحافظين الجدد، وبهدف صوغ استراتيجية بديلة لاستراتيجية أوسلو- طابا التي ارتبطت باسم الثنائي رابين- بيريز. أبرز توصيات الفريق وخلاصات عمله تمثلت في "الحاجة للانسحاب من مرجعيات عملية السلام كما تبلورت في مدريد وأوسلو وطابا"، ولقد كان نتنياهو ومن تبعه من رؤساء حكومات "إسرائيل"، أوفياء لهذه التوصية، بدلالة السور الواقي وإعادة احتلال الضفة الغربية والعودة لسياسة الإملاءات وفرض الوقائع على الأرض، من جانب واحد، وبالضد من مشيئة المجتمع الدولي وعلى حساب الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني.
اليوم، وبعد مضي عام أو أزيد قليلاً على توليه مقاليد حكومته الثانية، يخطو نتنياهو خطوة استراتيجية ثانية على طريق الانقضاض على أوسلو وما سبقه ولحقه من اتفاقيات، فالقرار الذي صدر عن المؤسسة العسكرية وقضائها الاحتلالي، والقاضي بطرد ما يقرب من 70 ألف فلسطيني مقيمين على أرضهم وفي وطنهم في الضفة الغربية، إنما يراد بها محو كل آثار عملية مدريد- أوسلو، والانقضاض على مخرجات هذه العمليات من مؤسسات و"منجزات" على تواضعها، ولعل الإنجاز الأهم أو ربما الأوحد لتلك العملية، هو تمكن عشرات ألوف الفلسطينيين من العودة إلى وطنهم، أو التنقل والإقامة بين جناحيه (الضفة وغزة)، وتحوّله إلى ملاذ لكل المطاردين بجرافات الاستيطان وقرارات المحاكم العسكرية في القدس.
إن أمكن لحكومة اليمين واليمين المتطرف أن تنفذ قرارها الإجلائي - العنصري، فإن الشعب الفلسطيني المقيم على وطنه، سيواجه ثالث أكبر وأخطر عملية تهجير جماعي قسري بعد نكبة 48 ونكسة 67، وسيكون لهذا القرار وقع "الشرارة التي ستشعل سهلاً"، ليس في فلسطين وحدها، بل وفي الدول التي سيتعين عليها تلقي هؤلاء اللاجئين القدامى - الجدد.
ولعل أخطر ما في القرار الإسرائيلي من حيث مضمونه وتوقيته، أنه يحمل في طياته بذور "الحل اليميني" لمشكلة الديموغرافيا الفلسطينية المؤرّقة لدولة الاحتلال، فاليمين الذي لا يريد للفلسطينيين أن يمارسوا حقهم في تقرير مصيرهم وبناء دولتهم المستقلة تحت شعار "دولتين لشعبين"، يرفض وبصورة أشد "خيار دولة واحدة لشعبين"، والحل عنده بتهجير الشعب الفلسطيني وسكان البلاد الأصليين، ليس من "إسرائيل" وداخل الخط الأخضر فحسب، بل ومن "المناطق المدارة"، في الضفة والقدس وغزة، أراضي الدولة الفلسطينية المنتظرة.
والقرار من حيث توقيته، وبتزامنه مع اشتداد شراسة الهجمة على الأرض والحقوق والقدس والمقدسات، يظهر نَهَم "إسرائيل" للاستيلاء على الأرض مفرغة من سكانها، وهو بهذا المعنى يعد بمثابة إعلان حرب على الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية المشروعة، ومن خلفه على الأمة العربية بمجملها، وتحديداً دول الطوق ذات التماس جغرافيا وديموغرافيا مع فلسطين.
نتنياهو ينزع الشرعية عن وجود 70 ألف مواطن فلسطيني على أرضهم ووطنهم، ليضفي الشرعية على وجود أكثر من نصف مليون مستوطن مزروعين على صدور الفلسطينيين في القدس والضفة الغربية، وهو بذلك لا يطلق رصاصة الرحمة على عملية السلام فقط، ولا "يدق المسمار الأخير في نعشها" فحسب، بل ويضع الفلسطينيين سلطة ومقاومة، في غزة والضفة أمام خيارين لا ثالث لهما: إما التلهي بمفاوضاتهم العبثية واستمرار اللهاث خلف سراب "خيار السلام الاستراتيجي الوحيد"، وإما الشروع في صياغة استراتيجية وطنية بديلة، تجمع بين كافة أشكال العمل السياسي والمقاوم وفقا لمقتضيات اللحظة وحسابات المصلحة الوطنية العليا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الدستور الأردنية