في شهر ذي القعدة من السنة السابعة من الهجرة، خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ألفين من المسلمين، سوى النساء والصبيان، متجهين نحو مكة لأداء العمرة، في موكب مهيب، يشق طريقه عبر القرى والبوادي، بزي واحد من الإحرام، وهم يرفعون أصواتهم بالتلبية، ويسوقون هديهم، في مظهر لم تشهد مكة له مثيلا من قبل .. حيث كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تَعاهد مع قريش في الحديبية على القدوم لأداء العمرة، وأن تترك له قريش مكة ثلاثة أيام، وألا يدخل المسلمون ومعهم سلاح، إلا السيوف في أغمادها .. ولقد أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه بأخذ أسلحتهم خشية من غدر قريش، وأمر بالإبقاء عليها خارج حدود الحرم، وترك عليها مجموعة من المسلمين لحراستها ..
دخل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه مكة، وطافوا بالكعبة، وأمرهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإظهار القوة والجلد في طوافهم وسعيهم، ردا على إشاعة قريش بأنهم ضعفاء قد أوهنتهم حمى يثرب، فسارعوا في الأشواط الثلاثة الأولى من الطواف، كما هرولوا في السعي، ليُظهروا للمشركين قوتهم .. وكانت قريش قد خرجت من مكة وتجمعت على جبل قعيقعان، ينظرون إلى المسلمين في طوافهم وسعيهم، ويتعجبون من قوتهم ..
وبعد أن أدى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مناسك العمرة هو ومن معه، أرسل جماعة من الصحابة إلى موضع سلاحهم، ليتيحوا الفرصة لإخوانهم الذين كانوا يحرسون السلاح لأداء عمرتهم .
ولما انقضت الأيام الثلاثة على إقامة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مكة، جاء المشركون إلى علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ، وقالوا له: قل لصاحبك اخرج عنا فقد مضى الأجل. فخرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ونزل بسرف (مكان قرب التنعيم) حتى اكتمل الناس، ثم انصرف بهم إلى المدينة ..
يقول عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ : ( أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خرج معتمرا، فحال كفار قريش بينه وبين البيت، فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية، وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل، ولا يحمل سلاحا عليهم إلا سيوفا، ولا يقيم بهم إلا ما أحبوا، فاعتمر من العام المقبل، فدخلها كما كان صالحهم، فلما أن أقام بها ثلاثا، أمروه أن يخرج فخرج )( البخاري )..
ويقال لهذه العمرة عمرة القضاء وعمرة القضية، وتعتبر تصديقا إلهيا، لما وعد به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه من دخول مكة وطوافهم بالبيت، قال تعالى: { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً } (الفتح:27) .
وظهرت في عمرة القضاء حكمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والتي مهدت بعد ذلك لفتح مكة، فقد رأى المشركون ذلك العدد الكبير من المسلمين، وهم محيطون برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في عزة وقوة، في طوافهم وسعيهم وسائر مناسكهم، ومن ثم دخل إلى نفوسهم الرعب، إذ فوجئوا بقوة المسلمين، على عكس ما كانوا يتصورون من ضعف المسلمين وخمولهم، بسبب ما قد يحتمل من إصابتهم بحمى يثرب وسوء مناخها .. فهذا الخوف الذي وقع في نفوس المشركين، والذي كان سببا من أسباب فتح مكة بعد ذلك، أثر من حكمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقد روى البخاري عن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: ( قدم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم، وقد وهنتهم حمى يثرب، فأمرهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يرملوا(يسرعوا) الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا بين الركنين ).
قال الحافظ ابن حجر : ويؤخذ من ذلك جواز إظهار القوة بالعدة والسلاح ونحو ذلك للكفار إرهابا لهم، ولا يعد ذلك من الرياء المذموم، وفيه جواز المعاريض بالفعل كما يجوز بالقول، وربما كان بالفعل أولى .. وقد قصد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما أمر به أصحابه من الاضطباع والسعي والتلبية أن يرهب قريشا، وأن يظهر لهم قوة المسلمين، وكان لذلك الأثر البالغ في نفوس المشركين.
وقد ذكر ابن القيم : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، كان يكيد المشركين بكل ما يستطيع.. ففي غزوة أحد أذن لأبي دجانة أن يمشي متبخترا أمام المشركين لإظهار عزة المؤمن وقوته، وفي ذلك غيظ للمشركين، وفي الحديبية ساق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمامه جمل أبي جهل الذي غنمه في بدر لإغاظتهم..
ومن خلال هذه العمرة المباركة، علَّم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأمة أن تأخذ الاحتياط والحذر من غدر الكفار، حيث أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ اصطحب معه السلاح الكامل، ولم يقتصر على السيوف، تحسبا لأي طارئ قد يقع، خاصة أن الكفار غالبا ـ والتاريخ شاهد على ذلك ـ لا يحافظون على عهد قطعوه، ولا عقد عقدوه، فلم يأمن غدر قريش وخيانتهم، فقد تسول لهم أنفسهم أن ينصبوا كمينا للمسلمين، أو يشنوا عليهم هجوما مفاجئا، ومن ثم احتاط النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منهم، مع وفائه لهم بعهده، وفي ذلك درس هام للأمة أفرادا ومجتمعات، بالوفاء بالعهد، وأخذ الحيطة والحذر من الأعداء ..
لقد أثرت أحداث هذه العمرة المباركة، على أهل مكة تأثيرا كبيرا، فبعد مدة يسيرة منها، أسلم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص ، وحارس الكعبة عثمان بن طلحة ، بل ظهر الإسلام في بيوت كثيرة في مكة.
كما خرج المسلمون منها بالعديد من الفوائد الأخرى .
فعن البراء بن عازب قال: ( لما أراد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الخروج من مكة بعد أدائه للعمرة، تبعته ابنة حمزة تنادي يا عم، يا عم، فتناولها علي ، فأخذ بيدها وقال لفاطمة ـ رضي الله عنها ـ: دونك ابنة عمك، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر ـ رضي الله عنهم ـ، فقال علي : أنا أخذتها وهي بنت عمي، وقال جعفر : هي ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال زيد : ابنة أخي .. فقضى بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لخالتها، وقال: الخالة بمنزلة الأم، وقال لعلي : أنت مني وأنا منك، وقال لجعفر : أشبهت خَلقي وخُلقي، وقال لزيد : أنت أخونا ومولانا. وقال علي لزيد : ألا تتزوج بنت حمزة ؟، قال: إنها ابنة أخي من الرضاعة، وتزوج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ميمونة وبنى بها ِبسَرف )( البخاري )..
ويؤخذ من ذلك: أن الخالة بمنزلة الأم، وتقدم في الحضانة على سائر الأقارب بعد الأبوين، كما ذكر ذلك ابن القيم في كتابه زاد المعاد . وتزكية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لجعفر بن أبي طالب ، ووصفه له بقوله: أشبهت خَلقي وخُلقي.. وكذلك فضل علي وزيد ـ رضي الله عنهم ـ. وأن آخر من تزوج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من نسائه ميمونة بنت الحارث ـ رضي الله عنها ـ، وهي آخر من مات من نسائه، وقد تزوجها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بسرف (مكان قرب التنعيم)، وماتت بعد ذلك ودفنت فيه، فمكان عُرسها هو مكان دفنها ـ رضي الله عنها ـ ..
هذا وقد اعتمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أربع عمرات وحج حجة واحدة، فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ : ( أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة، عمرة من الحديبية في ذي القعدة، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة، وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة، وعمرة في حجته ) ( مسلم )..
لقد كشفت عمرة القضاء وما جرى فيها من أحداث، أن المسلمين أصبحوا يشكلون قوة متماسكة، وصفا واحدا كالبنيان المرصوص، وهذا ما جعل قريش تشعر بخطورتهم، وتفقد الأمل في التغلب عليهم، وتدرك أن الخلاص يكمن في الانضمام إلى المعسكر الإسلامي عاجلا أم آجلا ..
ومن ثم كانت هذه العمرة المباركة، تمهيدا للفتح الكبير الذي جاء من بعدها، إذ كانت سببا لفتح قلوب أهل مكة قبل فتح أبوابها ..