ظهر الغدر بالمسلمين من قبائل نجد، وتجلى في مقتل أولئك السبعين الذين خرجوا يدعون إلى الله، وقد سمع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن بني أنمار وبني محارب وبني ثعلبة من غطفان قد اجتمعوا لحربه، فما كان منه - صلى الله عليه وسلم - إلا أن خرج إليهم بجيش من الصحابة، واتضحت منذ البداية الصعوبات التي تنتظرهم، فهناك نقص شديد في عدد الرواحل، حتى إن الستة والسبعة من الرجال كانوا يتوالون على ركوب البعير . ومما زاد الأمر سوءاً وعورة الأرض وكثرة أحجارها الحادّة، التي أثّرت على أقدامهم حتى تمزّقت خفافهم، وسقطت أظفارهم، فقاموا بلفّ الخِرَق والجلود على أرجلهم .
واستمر الجيش في المسير حتى بلغ موضعاً لبني غطفان يُقال له نخل على بعد يومين من المدينة، فلما سمع بهم الأعراب تملّكهم الخوف، فهربوا إلى رؤوس الجبال، تاركين وراءهم النساء والذرية .
وحضر وقت الصلاة فخشي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعود أولئك الفارّون مرة أخرى ليهجموا على المسلمين على حين غفلة، فنزل القرآن الكريم بتشريع صلاة الخوف، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بمن معه، ثم عاد بهم إلى المدينة .
لقد كان في غزوة ذات الرقاع ـ رغم عدم حدوث قتال فيها ـ مواقف ودروس، تستحق الوقوف عندها للنظر فيها والاستفادة منها .
فعن أبي موسي الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال: ( خرجنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونحن ستة نفر، بيننا بعير نعتقبه، فنقبت أقدامنا(ورمت وقرحت)، ونقبت قدماي، وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت ذات الرقاع، لما كنا نعصب الخرق على أرجلنا ) ( البخاري ) .
وفي وصف أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ لحال الصحابة في هذه الغزوة بيان لسبب تسمية هذه الغزوة بذات الرقاع، وتوضيح لما كان يتحمله أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الشدائد والمحن في سبيل دينهم .
وقد ندم أبو موسى ـ رضي الله عنه ـ أن حدَّث بهذا الحديث، وإنما كره ذلك وندم عليه بسبب خوفه أن يكون أظهر شيئا من عمله الذي احتسب أجره عند الله تعالى، وهذا يدل كما يقول النووي : " .. أنه يستحب للمسلم أن يخفي أعماله الصالحة، وما قد يكابده من المشاق في طاعة الله تعالى، وأن لا يتعمد إظهار شيء من ذلك إلا لمصلحة، مثل بيان حكم ذلك الشيء، والتنبيه على الاقتداء به ونحو ذلك، وعلى مثل هذا يحمل ما وُجِد للسلف من الإخبار ببعض أعمالهم " .
ومن فوائد هذه الغزوة المباركة نزول آيات من القرآن الكريم في تشريع صلاة الخوف، وهي قوله تعالى: { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِينا } (النساء:102)..
وفي ذلك دلالة عظيمة على أهمية المحافظة على الصلاة حتى في أسوأ الظروف وأشد الحالات، كحالة القتال والخوف، ومن ثم كانت الصلاة من آخر وصايا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأمته، فعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: ( كان آخر وصية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين حضره الموت، الصلاة، الصلاة،ـ مرتين ـ، وما ملكت أيمانكم، وما زال يغرغر بها في صدره وما يفيض بها لسانه ) ( الحاكم ).
ومن الدروس المستفادة كذلك من غزوة ذات الرقاع، بيان العناية الربانية التي أحاطت بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعصمته من أيدي أعدائه، مصداقاً لقول الله تعالى: { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ }(المائدة: من الآية67)، فليست العصمة المقصودة في الآية ألا يتعرض لأذى أو محنة من قومه، إذ تلك سنة الله في عباده، وإنما المراد بالعصمة أن لا تصل إليه يد تحاول قتله.
كما ظهرت شجاعته ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقوة يقينه بربّه، وعفوه عمّن ظلمه، وقد ظهر ذلك كله فيما رواه جابر ـ رضي الله عنه ـ حين قال: ( كنا مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فنزل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتفرق الناس في العضاة(شجر به شوك)، يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تحت شجرة فعلق بها سيفه . قال جابر : فنمنا نومة، فجاء رجل من المشركين: فاخترط سيف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: أتخافني؟ قال: لا، قال: فمن يمنعك مني؟ قال : الله . قال جابر : فإذا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدعونا فجئنا، فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صَلْتًا، فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت : الله، فها هو ذا جالس، ثم لم يعاتبه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ) وفي رواية أبي عوانة : ( فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : من يمنعك مني؟ قال: كن خير آخذ، قال: تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال الأعرابي: أعاهدك على ألا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك. قال: فخلى سبيله، فجاء إلى قومه، فقال: جئتكم من عند خير الناس ) ( البخاري ) .
وفي أثناء رجوع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من هذه الغزوة، دار حوار بينه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبين جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ، ظهر من خلاله حب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه، واهتمامه بهم، ولطف حديثه معهم، وتفقّده لشؤونهم، ومواساتهم بالمال والنصيحة .
قال جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ: ( خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى غزوة ذات الرقاع من نخل، على جمل لي ضعيف، فلما قفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعلت الرفاق تمضي، وجعلت أتخلف، حتى أدركني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: مالك يا جابر ؟ قال: قلت يا رسول الله أبطأني جملي هذا، قال: أنخه، فأنخته، وأناخ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: أعطني هذه العصا من يدك ـ أو اقطع لي عصاً من شجرة ـ، قال: ففعلت. قال: فأخذها رسول الله فنخسه بها نخسات، ثم قال: اركب، فركبت، فخرج ـ والذي بعثه بالحق - يواهق ناقته مواهقة (يسابقها لسرعته). قال: وتحدثت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: أتبيعني جملك هذا يا جابر ؟ قال: قلت يا رسول الله بل أهبه لك، قال: لا، ولكن بعنيه. قال: قلت: فََسُمْنِيه يا رسول الله، قال: قد أخذته بدرهم، قال: قلت: لا، إذن تغبنني يا رسول الله، قال: فبدرهمين، قال: قلت: لا، قال: فلم يزل يرفع لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثمنه، حتى بلغ الأوقية، قال: فقلت: أفقد رضيت يا رسول الله؟ قال: نعم، قلت: فهو لك، قال: قد أخذته. قال: ثم قال: يا جابر : هل تزوجت بعد؟ قال: قلت: نعم يا رسول الله، قال: أثيِّباً أم بكراً؟ قال: قلت: لا، بل ثيِّباً، قال: أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك؟ قال: قلت يا رسول الله إن أبي أصيب يوم أحد، وترك بنات له سبعاً، فنكحت امرأة جامعة، تجمع رؤوسهنَّ، وتقوم عليهنَّ، قال: أصبت - إن شاء الله ـ .. )( أحمد ).
وقد أعاد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الجمل لجابر ومعه أوقية ..
تلك من نماذج الأخلاق التي تحلى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ في معاملته لأصحابه، والتي ينبغي أن يتعلم منها الدعاة والمربون ..
وفي طريق عودة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الغزوة ومع حلول الليل، أمر ـ صلى الله عليه وسلم - بحراسة على المعسكر، واختار لهذه المهمة رجلاً من المهاجرين ورجلاً من الأنصار، وهما عباد بن بشر و عمّار بن ياسر ـ رضي الله عنهما ـ، وقسَّم الليل بينهما نصفين، فاختار عبّاد بن بشر أول الليل وقام يصلي، واستغل أحد المشركين هذه الفرصة فأطلق سهماً أصاب عباداً ـ رضي الله عنه ـ، فنزع عَبَّاد السهم من جسده ومضى في صلاته، ثم رماه المشرك بسهم ثانٍ وثالثٍ، وهو مع ذلك مستمر في صلاته، ولم ينصرف حتى أتمّها، فأيقظ عماراً ليسعفه بالنجدة، فلما رأى المشرك ذلك ولّى هارباً، فقال عمار وهو يرى الدماء تسيل من جسده: سبحان الله، ألا نبّهتني أول ما رمى؟، فقال عبّاد ـ رضي الله عنه ـ : كنت في سورة أقرؤها، فلم أحب أن أقطعها .
وفي هذا الموقف يتضح لنا مقدار حب الصحابة للقرآن الكريم والصلاة، إذ كادت نفس عباد ـ رضي الله عنه ـ تزهق في سبيل إتمام سورة من القرآن لم يشأ أن يقطعها، وإنما قطعها استشعاراً بمسؤولية الحراسة التي كُلِف بها ..