المراكز العلمية العربية: جاذبية الشكل وفراغ المضمون
21/03/2010| إسلام ويب
لا بد من وقفة موضوعية جادة لرصد ظاهرة المراكز العلمية ومراجعة أدائها في دول الشرق الأوسط، حيث أصبحت مثل هذه المراكز تنتشر كـ “الفطر” على نحو لافت للنظر في الجامعات والمؤسسات الحكومية ووسائل الإعلام، ولدى القطاع الخاص في حالات معينة.
المهم في هذا السياق هو الاعتراف بأن هذه الظاهرة صحية وواعدة بقدر تعلق الأمر بإعداد مثل هذه المراكز وبحقول تخصصاتها وتشعباتها ، ابتداءً من دراسات السيرة والسنة النبوية الشريفة، مروراً بالبحوث الاستراتيجية والسياسية، وانتهاءً بأبحاث التمور وألعاب الأطفال التراثية. ولكن مع هذا التأكيد على فوائد هذا النوع من النشاط، ينبغي رصد جدواه ومعطياته ومخرجاته الواقعية الملموسة تجنباً لتحول مثل هذه المراكز إلى مجرد “تقليعة” تعبر عن “حمى” لتأسيس مراكز غير مجدية أو مراكز بأسماء وأقنعة علمية مغرية يراد لها إخفاء الترهل والتغطية على قنوات صرف الأموال واستحلابها من الرعاة بلا إنتاج حقيقي ملموس يرقى إلى المتوقع والمرجو.
ولكن قبل مباشرة مثل هذه الاستفهامات الحساسة، التي يمكن أن تستثير حفيظة البعض، يتوجب التسليم بحقيقة أن ظاهرة المراكز العلمية التخصصية إنما هي من إفرازات “محاكاة” المؤسسات العلمية الغربية، ذلك أن الأقاليم العربية لم تكن على معرفة وتجربة ملموسة بمثل هذه المراكز، باستثناء تجربة قديمة ومنسية، وهي تجربة “بيت الحكمة" البغدادي الذي تأسس على عهد الخليفة العباسي المأمون لرصد وترجمة وأرشفة النتاج العلمي للأمم الأعجمية، من أجل إفادة رأس الدولة والمختصين في الطب والفلسفة وسواهما من علوم ذلك العصر.
أما حديثاً فإن الجامعات العربية قد اضطلعت بمشاريع من هذا النمط المؤسسي، بيد أنها بقيت أدنى مما كان مرسوماً لها، ذلك أنها لم ترقَ قط إلى مستوى المراكز العلمية التخصصية ومراكز الدراسات الإقليمية في الجامعات الأميركية والأوروبية الغربية عامة. ويرد سبب ذلك إلى انهماك بعض الجامعات العربية بعمليات التخريج بالجملة، زد على ذلك ضعف التمويل الذي تحظى به مثل هذه المشاريع التي تعد فرعية في بعض الأقطار العربية. بل إن مثل هذه المراكز العلمية الجامعية وصلت حداً من التدني أنها صارت نوعاً من المنفى للتدريسيين من الجامعيين غير المرغوب بخدماتهم في قاعة المحاضرات، إما لأسباب فردية أو لأسباب سياسية أو لسواها من الأسباب. لذا لوحظ وجود مراكز علمية متخصصة بأسماء كبيرة ولكن بمخرجات مجهرية صغيرة في عدد من الجامعات العربية التي تفتقر أصلاً لما يكفي من الكوادر العلمية الرفيعة القادرة على الابتكار والأصالة في البحث.
وفي مقابل هذه الحال، برزت ظاهرة الاندفاع الواسع الذي عبر عنه العديد من حملة الشهادات العليا والمتخصصين نحو الانضمام أو الالتحاق بمثل هذه المراكز العلمية (في الدول الغنية) نظراً لأنها تقدم المرتبات العالية والإيفادات العلمية المغرية دون الحاجة إلى العمل المثابر لساعات طوال وعلى نحو دوام رسمي، باعتبار أن المنتمي إنما هو باحث لا يحتاج إلى مثل هذه التعقيدات الشكلية. وهكذا صارت بعض المراكز العلمية "لا علمية"، بل غدت نوعاً من أنواع البطالة المقنعة. ومن ناحية أخرى، شهدت وسائل الإعلام حالة من الانجراف في تيار تأسيس المراكز والنوادي العلمية على سبيل تجهيزها بالمواد الصالحة للنشر أو للضخ الإعلامي، الأمر الذي يبرر إعلانات الفضائيات العربية وبعض الصحف تأسيس مراكز من هذا النوع، ليس فقط من أجل تحقيق مثل هذه الأهداف، وإنما كذلك من أجل منح وسيلة الإعلام المذكورة مسحة من الرصانة العلمية وشيئاً من الوجاهة أو السمعة التي قد ترقى بها إلى مصاف (نيويورك تايمز) أو الـ ( CNN).
بيد أن الملاحظ هنا هو إساءة توظيف مثل هذه العناوين الكبيرة عبر إنتاج أدنى مستوى من المتوقع والمأمول. إن هذا، بطبيعة الحال، ليس بتعميم أعمى لأنه لا ينفي وجود مراكز بحث ودراسات إعلامية متخصصة بدرجة عالية من الجدوى والفائدة الملموسة.
ولكن من منظور آخر، تبقى حالة هدر الأموال والتغطية على غياب الجدوى العلمية حالة مغرية لمتابع هذا الموضوع في بعض الدول العربية. والدليل هو تحول بعض هذه المراكز العلمية، بأسمائها المبهرجة والكبيرة، إلى مجرد مكاتب وسكرتاريات وحواسيب لجمع الغبار. بل إن بعض المراكز التي تعد نفسها أكثر نشاطاً هي تلك التي تتوج عملها العلمي بإصدار مجلة أو دورية متخصصة فصلية أو شهرية أحياناً من أجل أن تقدمها للجهة الراعية أو الممولة كتأكيد على نشاط المركز الذي يشبه نشاط وحيوية عمل النحل في بناء خلاياه. ولكن رصد المؤلفات والأبحاث المنشورة في مثل هذه الدوريات يبرهن على أن المركز لا يؤدي ما هو متوجب عليه من دراسات وأبحاث لأنه يستعين بأقلام باحثين من خارج المركز، من هؤلاء الذين يريدون نشر أبحاثهم في أي إناء علمي معتمد أكاديمياً. مثل هذه المراكز كثير للغاية: فرغم فوائد أنشطة النشر من هذا النوع، على سبيل تشجيع حركة النشر العلمي، تبقى المراكز "ستائر" لإخفاء البطالة المقنعة بداخلها.
هذا هو ما يسحبنا تلقائياً إلى ضرورات التمييز بين مراكز البحث العلمي من ناحية، وبين دور النشر من الناحية الثانية. وهذا مأزق طالما أرّق القياديين الأكاديميين الجادين الذين كانوا يريدون للمراكز العلمية التي يؤسسونها أن تكون مراكز بحث علمي بحق (بباحثين جادين ومثابرين، وبمكتبات كبيرة، وبمشاريع علمية مخططة ومدروسة مركزياً، بأهداف رصينة ومفيدة)، وليس دوراً للنشر تبحث عمن يضنيه البحث عن الناشر كي تنشر كتابه أو بحثه ضمن سلسلة أوراق أو أبحاث يصدرها المركز، مقابل مكافآت مالية. ومن أجل المقارنة والمقاربة، على المطلع أن يلاحظ أن مراكز البحث الرفيعة في الجامعات والمؤسسات الغربية تخصص أموالاً طائلة وربما أسطورية من أجل اضطلاع باحثيها بدراسات عالية ودقيقة التخصص، ليس من أجل النشر بحد ذاته، بل من أجل تقديمها للراعي (حكومة أو مؤسسة خاصة) على نحو سري أو محدود التداول. بيد أن هذه الظاهرة قلما تحدث في العديد من الدول العربية، نظراً لتباين المنظور (منظور الجهة الراعية) وبسبب تدني المستوى العلمي والدافعية البحثية في حالات عديدة منظورة. بل إنني قد لاحظت، عبر تجارب وزيارات شخصية عديدة أن بعض مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية، إنما هي في جوهرها مجرد لا فتات للإعلان، لأنها لا تزيد عن مكتب مستأجر في بناية، زائد موظف أو موظفة مع شيء من المرطبات الساخنة شتاءً، والباردة صيفاً.
هنا تكمن المعضلة الجوهرية في ظاهرة محاكاة الغرب شكلياً، ولكن بدون محاولة تحقيق النتائج ذاتها المرجوة من عمليات تأسيس المراكز العلمية المتخصصة لدينا في الأقطار العربية. إن هذه المراكز الموجودة، أو المزمع إقامتها، حيث نتلقى دعوات الإسهام بها هذه الأيام، هي بحاجة ماسة إلى المراجعة الشديدة والدقيقة من قبل الجهات الراعية والعاملين بها أنفسهم على سبيل تفعيلها وإحالتها من مراكز لجمع شحوم الترهل والتكاسل، إلى مراكز مجدية ونابضة بالحياة ترقى بصانع القرار السياسي أو الإقتصادي أو الإجتماعي إلى المستوى المرجو من العطاء.