في مقال سابق تحدثنا عن نظرات الشباب وكتابات بعضهم حول ليلة الزفاف.. وطرزنا المقال ببعض مواقف لشباب السلف.. وقد حملني المقال الأول على كتابة مقال آخر وربما مجموعة من المقالات التي تنتمي لهذا الموضوع نبين فيها الأدب النبوي والشرعي والخلقي حول هذه الليلة التي هي (ليلة العمر) كما يحب الكثيرون تسميتها، وأردت بهذه المقالات أن نسموا بعيدا عن الأدب الرخيص والكلام السفيف والسخيف إلى أدب ينفع ويرفع دون أن يجرح ويقرع، وأيضا أن نتعلم أدب الحياة وخبرة السابقين عساها تكون نبراسا لنا ونورا يضيء طريقنا.
وموقفي الذي أسوقه اليوم ذكره الإمام ابن عساكر في تاريخ دمشق وهي في مختصره كذلك، وذكر باختصار في المستطرف، وبعض كتب الأدب.. وأنا سأنقلها هنا مع اختصارها، وأود لو أن إخواني عادوا إلى تاريخ دمشق ففي زياداتها فوائد خصوصا للشباب.
والقصة هي قصة زواج الإمام العلم القاضي شريح رحمه الله رحمه واسعة يحكيها الشعبي (وفي تاريخ دمشق هو موسى بن سعيد الراسبي الشعبي) قال: لقيني شريح، فقال لي: يا شعبي عليك بنساء بني تميم، فإني رأيت لهن عقولا، فقلت وما رأيت من عقولهن؟
قال: أقبلت من جنازة وقت الظهر، فمررت بدورهن وإذا أنا بعجوز على باب دار وإلى جانبها جارية كأحسن ما رأيت من الجواري، فعدلت إليها، واستسقيت (أي طلبت أن يسقوني). فقالت لي (يعني العجوز): أي الشراب أحب إليك؟ قلت: ما تيسر.
قالت: ويحك يا جارية ائتيه بلبن، فإني أظن الرجل غريباً.
فقلت للعجوز: ومن تكون هذه الجارية منك؟ قالت: هي زينب بنت حدير إحدى نساء بني حنظلة.
قلت: هي فارغة أم مشغولة؟ قالت: بل فارغة.
قلت أتزوجينيها؟ قالت: إن كنت كفأ ولم تقل كفوا، وهي بلغة بني تميم.
فتركتها ومضيت إلى منزلي لأقيل فيه، فامتنعت مني القائلة، فلما صليت الظهر أخذت بيد إخواني من العرب الأشراف علقمة والمسيب، ومضيت أريد عمها، فاستقبلنا وقال: ما شأنك أبا أمية؟ قلت: زينب ابنة أخيك. قال: ما بها عنك رغبة، وما بك عنها من نقص. قلت : فزوجنيها.
فلما صارت في حبالي ندمت وقلت أي شيء صنعت بنساء بني تميم، وذكرت غلظ قلوبهن، فقلت أطلقها، ثم قلت: لا، ولكن أدخل بها، فإن رأيت ما أحب وإلا كان ذلك.
فلو شهدتني يا شعبي وقد أقبلت نساؤها بهدينها حتى أدخلت علي. فقلت: إن من السنة إذا دخلت المرأة على زوجها أن يقوم ويصلي ركعتين. ويسأل الله تعالى من خيرها ويتعوذ من شرها. فتوضأت. فإذا هي تتوضأ بوضوئي، وصليت فإذا هي تصلي بصلاتي، فلما قضيت صلاتي أتتني جواريها فأخذن ثيابي وألبسنني ملحفة قد صبغت بالزعفران.
فلما خلا البيت دنوت منها، فمددت يدي إلى ناصيتها، فقالت على رسلك أبا أمية. ثم قالت: الحمد لله أحمده وأستعينه، وأصلي على محمد وآله، أما بعد، فإني امرأة غريبة لا علم لي بأخلاقك فبين لي ما تحب فآتيه، وما تكره فأجتنبه، فإنه قد كان لك منكح في قومك ولي في قومي مثل ذلك، ولكن إذا قضى الله أمراً كان مفعولا، وقد ملكت، فاصنع ما أمرك الله تعالى به، إما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولك ولجميع المسلمين.
قال: فأحوجتني والله يا شعبي إلى الخطبة في ذلك الموضع، فقلت: الحمد لله أحمده وأستعينه، وأصلي على محمد وآله أما بعد، فإنك قلت كلاماً إن ثبت عليه يكن ذلك حظاً لي، وإن تدعيه يكن حجة عليك، أحب كذا وأكره كذا، وما رأيت من حسنة فابثثيها، وما رأيت من سيئة فاستريها. فقالت: كيف محبتك لزيارة الأهل؟ قلت: ما أحب أن يملني أصهاري.
قالت: فمن تحب من جيرانك يدخل دارك آذن له، ومن تكرهه أكرهه؟ قلت: بنو فلان قوم صالحون، وبنو فلان قوم سوء.
قال: فبت معها يا شعبي بأنعم ليلة، ومكثت معي حولا لا أرى منها إلا ما أحب.
فلما كان رأس الحول جئت من مجلس القضاء، وإذا أنا بعجوز في الدار تأمر وتنهى. قلت: من هذه؟ قالوا فلانة أم حليلتك، قلت: مرحباً وأهلا وسهلا.
فلما جلست أقبلت العجوز، فقالت: السلام عليك يا أبا أمية، فقلت وعليك السلام ومرحباً بك وأهلا. قالت: كيف رأيت زوجتك؟ قلت: خير زوجة وأوفق قرينة.. لقد أدبت فأحسنت الأدب، وريضت فأحسنت الرياضة، فجزاك الله خيراً.
فقالت: أبا أمية إن المرأة لا يرى أسوأ حالا منها في حالتين، قلت: وما هما: قالت: إذا ولدت غلاماً أو حظيت عند زوجها، فإن رابك مريب فعليك بالسوط، فوالله ما حاز الرجال في بيوتهم أشر من الروعاء المدللة.
فقلت: والله لقد أدبت، فأحسنت الأدب، وريضت فأحسنت الرياضة، قالت: كيف تحب أن يزورك أصهارك؟ قلت: ما شاءوا، فكانت تأتيني في رأس كل حول فتوصيني بتلك الوصية.
قال شريح فلبثت معي عشرين سنة وما عبت عليها في تلك السنين إلا يوما واحدا كنت لها ظالما أيضا.
وكان لي جار من كندة يقال له ميسرة بن عدي لا يزال يقرع مرية له، فقلت في ذلك:
رأيت رجالا يضربون نساءهم ... فشلت يميني يوم تُضرب زينب
أأضربها من غير ذنب أتت به ... فما العدل مني ضرب من ليس يذنب.