معركة لم يحدث فيها قتال شديد، وقتلى المؤمنين والكفار يعدون على الأصابع، ومع ذلك لم تكن معركة عادية، بل كانت من أحسم المعارك في تاريخ الإسلام والمسلمين، وكانت ابتلاءً وامتحاناً، وتمييزاً بين المؤمنين والمنافقين .. ومن ثم تُعد غزوة الأحزاب من أهم الغزوات التي مرت بالمسلمين بالمدينة المنورة، ليس فقط لخطورتها أو صعوبتها، أو لانتصار المسلمين فيها، ولكن لأنها كانت غزوة فاصلة بين مرحلتين رئيستين من مراحل الحياة للدولة الإسلامية في المدينة المنورة..
في السنة الخامسة للهجرة خرج وفد من زعماء اليهود نحو كفار مكة، ليحرضوهم على غزو المدينة، ومحاولة القضاء على الإسلام والمسلمين، فتعاهدوا معهم على ذلك.. ثم خرج ذلك الوفد ـ يحمل الحقد والكراهية للمسلمين ـ نحو غطفان ليكتمل عقد الأحزاب .. وتداعت الجموع، فخرجت من الجنوب قريش وكنانة وأهل تهامة وبنو سليم، وخرجت من الشرق قبائل غطفان، وكذلك خرجت بنو أسد، واتجهت الأحزاب الكافرة نحو المدينة حتى تجمع حولها جيش كبير يبلغ عدده عشرة آلاف مقاتل بقيادة أبي سفيان .. والمسلمون في حال شديدة من جوع شديد، وبرد قارص، وعدد قليل، وأعداء كُثر.. ولقد وصف الله هذا الموقف بقوله تعالى: { إ ِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا. هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً } (الأحزاب 11:10).
ولما سمع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بزحف الأحزاب إلى المدينة، وعزمها على حرب المسلمين، استشار أصحابه، وقرروا بعد الشورى التحصن في المدينة والدفاع عنها، وأشار سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ اعتمادا علي خبرته في حرب الفرس، بحفر خندق حول المدينة، وقال: " يا رسول الله، إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا " .. فوافقه وأقره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمر بحفر الخندق حول المدينة . وتمّ تقسيم المسؤولية بين الصحابة بحيث تولّى كل عشرةٍ منهم حفر أربعين ذراعاً، ثم بدأ العمل بهمّة وعزيمة على الرغم من برودة الجوّ وقلة الطعام، وزاد من حماسهم مشاركة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحفر ونقل التراب .. وحينما اشتد الكرب علي المسلمين، دعا رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ علي الأحزاب فاستجاب الله عز وجل لنبيه ـ صلي الله عليه وسلم ـ، فهبت وأقبلت بشائر الفرج والنصر، ورجعت قريش والأحزاب خائبين منهزمين، وانفك الحصار، وعاد الأمن، وثبت المؤمنون، وانتصر الإيمان..
إن غزوة بهذه القيمة، لا شك أن فيها من الدروس والمعاني الكثير التي ينبغي الوقوف معها للاستفادة منها في واقعنا، ومنها :
أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنزل الشورى منزلتها ورسخها في حياة الأمة، إذ الحاجة إليها في الشدائد والقرارات المصيرية على غاية من الأهمية، فالشورى استفادة من كل الخبرات والتجارب، واجتماع للعقول في عقل، وبناء يساهم الجميع في إقامته..
والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مستغن عن الشورى، فهو المؤيد بالوحي المُسَدَّد به، ولا حاجة به إلى الشورى، لكن لا بد من تأصيلها لتكون من أصول المجتمع التي لا يحيد عنها، ومن ثم جعلها الله من سمات المجتمع المسلم والأمة الإسلامية، فقال تعالى: { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } (الشورى: من الآية38) ..
ولقد أعطى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذه الغزوة ـ وغيرها من الغزوات ـ القدوة العملية في مشاركته لأصحابه التعب والعمل، والآلام والآمال.. فقد تولى المسلمون وعلى رأسهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، المهمة الشاقة في حفر الخندق.. ورغم طوله الذي بلغ خمسة آلاف ذراع، بعرض تسعة أذرع، وعمق يقرب من عشرة أذرع، فقد تم إنجازه في سرعة مذهلة، لم تتجاوز ستة أيام، وكان لمشاركة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الفعلية، أثر كبير في الروح العالية التي سيطرت على المسلمين في موقع العمل .
روى البخاري في صحيحه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان أثناء حفره يردد، أبيات عبد الله بن أبي رواحة ـ رضي الله عنه ـ :
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلّينا
فأنزلن سكينة علينا وثبّت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا وإن أرادوا فتنة أبينا
والمسلمون يردوا عليه قائلين: نحن الذين بايعوا محمدا على الإسلام ما بقينا أبدا
وفي ذلك تعليم للقادة ألا يتميزوا عن جنودهم، وأن يعطوهم القدوة بفعلهم، فالرسول ـ صلي الله عليه وسلم ـ شارك الصحابة في حفر الخندق، وحمل الحجارة، وجاع كما جاع أصحابه، ومن ثم كان النبي ـ صلي الله عليه ـ وسلم قدوة للقائد والعالِم، بل للناس جميعا، قال الله تعالي: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } (الأحزاب:21) ..
الكفر كله ملة واحدة، والخيانة والغدر من طبع وخلق اليهود، هذا ما أظهرته بوضوح غزوة الأحزاب، فقد تكالب الكفر على المسلمين, واتفق واتحد كفار قريش واليهود ضد الإسلام، وقاد أبو سفيان أضخمَ جيش شهدته جزيرة العرب، للقضاء على الإسلام والمسلمين، إضافة إلى العدو الداخلي من يهود بني قريظة، الذين نقضوا العهد وانضموا إلى قريش، فجاء الكفر جملة واحدة كما وصفهم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( إن العرب قد كالبتكم (اشتدوا عليكم) ورمتكم عن قوس واحدة )..
فاليهود وضعوا أيديهم في يد المشركين رغم اختلاف عقائدهم ومناهجهم، ووافق المشركون على هذا التحالف، فالكفر كله ملة واحدة، والأمثلة في التاريخ وواقعنا المعاصر على ذلك أكثر من أن تحصى، وعلى المسلمين أن يفقهوا ذلك جيدا، وليس أدل على ذلك من اتحاد اليهود والنصارى في حرب المسلمين مع شدة كراهية اليهود للنصارى، وشدة كراهية النصارى لليهود، قال الله تعالى: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ } (البقرة: من الآية113)، ومع ذلك فعند حرب الإسلام تذوب هذه الفوارق والعداوات، وتبقى الرغبة المشتركة في محاولة هدم الإسلام والقضاء على أهله، قال الله تعالى: { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } (البقرة: من الآية120)، وقال: { وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا } (البقرة: من الآية217)..
ومن خلال غزوة الأحزاب تعلم الصحابة التفاؤل والأمل، فبالرغم من كل تلك الظروف العصيبة الشديدة التي أحاطت بالمسلمين، من حصار جماعي من مختلف قبائل العرب واليهود، وبجيش يبلغ عشرة آلاف مقاتل، ومن جوع وخوف، وشدة برد، ومعاناة شديدة في حفر الخندق، لم ييأس المسلمون، ولم يفقدوا ثقتهم بوعد الله ونصره، بل ازدادوا إيمانا ويقينا، قال الله تعالى: { وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً } (الأحزاب:22)..
فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعدهم ويبشرهم بفتح الشام وفارس واليمن ـ رغم ما هم فيه من شدة وألم ـ، فعن البراء بن عازب قال: ( أمرنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحفر الخندق، قال وعرض لنا فيه صخرة لم تأخذ فيها المعاول، فشكوناها إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فجاء فأخذ المعول ثم قال: باسم الله ، فضرب ضربة ، فكسر ثلث الحجر، وقال : الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا، ثم قال : باسم الله، وضرب أخرى، فكسر ثلث الحجر، فقال : الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا، ثم قال : باسم الله، وضرب ضربة أخرى، فقلع بقية الحجر، فقال : الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا ) ( أحمد ).
ففي أحلك المواقف وأشدها كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يربي أصحابه على الثقة واليقين بموعود الله، وعلى التفاؤل والأمل، وعدم اليأس والاستكانة للكافرين، وهذا درس هام من دروس غزوة الأحزاب..
ولقد حرص الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذه الغزوة وغيرها من غزوات، على أن يؤكد لصحابته وللمسلمين من بعدهم، أن النصر من عند الله وحده، فالأحزاب التي تجاوزت عشرة آلاف مقاتل، لم تُهزم بالقتال من المسلمين رغم تضحياتهم، ولم تُهزم بعبقرية المواجهة ودقة التخطيط، وإنما هُزِمت بالله وحده، وما يسرَّه الله من أسباب وسخره من جنود، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } (الأحزاب:9)
فإذا أراد الله نصر المؤمنين، فلا ضرر عليهم إذا خذلتهم الدنيا بأسرها، أو تحالف عليهم الكفر وأهله، قال الله تعالى: { إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } (آل عمران:160) ..
ومن ثم أكد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا المعنى، فقال: ( .. لا إله إلا الله، أعز جنده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده .. ) ( البخاري )، وبذلك يعلمنا رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ أن المسلم حينما تصيبه شدة أو كربة فإنه يلجأ أولا إلى الله، ويستعين بالله، فالفرج منه، والنصر من عنده سبحانه..
ويظهر لنا من هذه الغزوة أهمية الدعاء، فقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كثير التضرع والدعاء، وخصوصا في مغازيه، فحينما اشتد الكرب على المسلمين حتى بلغت القلوب الحناجر وزلزلوا زلزالاً شديداً، دعا رسول الله ـ صلى الله عليه سلم ـ على الأحزاب فقال: ( اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم ) ( البخاري ).
فاستجاب الله ـ سبحانه ـ دعاء نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فأقبلت بشائر الفرج، فصرف الله بحوله وقوته جموع الكفر من الأحزاب، وزلزل أبدانهم وقلوبهم، وشتت جمعهم باختلافهم، ثم أرسل عليهم الريح الباردة الشديدة، وألقى الرعب في قلوبهم، وأنزل جنودًا من عنده سبحانه ، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } (الأحزاب:9)..
فالدعاء سلاح هام في أيدي المسلمين، فالأسباب إذا كانت قليلة يعوضها ويَفضل عليها التضرع إلي الله، والتوكل علي الله، قال الله تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } (غافر: من الآية60)، وقال: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } (الطلاق: من الآية3 ).. وهذا لا يتعارض مع الأخذ بالأسباب البشرية للنصر، فقد تعامل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذه الغزوة مع سنة الأخذ بالأسباب, فبذل جهده لتفريق الأحزاب، وفك الحصار، والحفر، وغير ذلك .. ، إلا أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعلمنا سنة الأخذ بالأسباب, مع ضرورة الالتجاء إلى الله، وأهمية الدعاء، وطلب النصر من الله ..
لقد كانت غزوة الأحزاب غزوة فاصلة في حياة الأمة الإسلامية، حتى قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعدها : ( الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم ) ( البخاري )، فتحولت سياسة الدولة الإسلامية من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم ..