القارئ لكتب التفسير تستوقفه عبارة يكررها المفسرون في مواضع من تفاسيرهم، وهي قولهم: وهذا خرج مخرج الغالب. فما هو المراد من هذه العبارة؟ هذا ما نسعى لبيانه في هذا المقال.
نستبق البيان هنا بالقول: إن هذه العبارة على صلة وثيقة بما يسمى في أصول الفقه (مفهوم المخالفة)، وهذا المفهوم يفيد أن مدلول اللفظ في المسكوت مخالف لمدلوله في المنطوق، ويسمى دليل الخطاب. فأنت إذا قلت: زيد كريم، فالمفهوم المخالف لهذا المنطوق، أن زيداً ليس بخيلاً. وأنت لو قلت: احتشد الرجال في القاعة، فإن المفهوم المخالف لهذا المنطوق، أن القاعة خالية من النساء والأطفال.
وقد قرر أهل العلم أن من الموانع لاعتبار مفهوم المخالفة خروج المنطوق مخرج الغالب. ولهذا أمثلة عديدة في القرآن الكريم، نسعى تالياً لبيان أمثلة على هذا المنهج التفسيري.
قوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم...وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم} (النساء:23)، فهذه الآية يفيد منطوقها حرمة الزواج ببنت الزوجة المقيمة مع زوج أمها. والمفهوم المخالف لمنطوق هذه الآية يدل على أن بنت الزوجة إذا لم تكن مقيمة في بيت زوج أمها فإنه يجوز الزواج بها، وهذا في الحقيقة غير مراد؛ لأن المفهوم المخالف في هذا الآية غير معتبر، وإنما الآية وردت بحسب ما عليه أغلب الناس في عهد نزول الوحي، حيث إن البنت كانت عادة وغالباً ما تقيم في بيت زوج أمها. ومن هنا نجد المفسرين يقولون عند تفسيرهم لهذا الجزء من الآية: وهذا الخطاب خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له. وعليه، يحرم الزواج بالبنت بمجرد التزوج بأمها، ولا عبرة بمكان إقامتها. وجمهور الأئمة على حرمة الزواج بالربيبة، سواء كانت في حجر الرجل أو لم تكن في حجره.
قوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} (النساء:101). منطوق هذه الآية يفيد أن قصر الصلاة في السفر إنما يكون حالة الخوف وعدم الأمن، والمفهوم المخالف يدل على أن السفر إذا كان غير مخوف فلا يجوز قصر الصلاة، بيد أن هذا المفهوم غير مراد هنا؛ لأن القيد في الآية خرج مخرج الغالب حال نزول هذه الآية، فإنه في مبدأ الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة، بل ما كانوا يخرجون إلا إلى غزو عام، أو في سرية خاصة، وكانت أغلب أحوال المسلمين في قتال مع أهل الشرك. والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب أو على حادثة فلا مفهوم له.
قوله سبحانه: {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} (النساء:25). منطوق هذه الآية أن النكاح لا يكون إلا من المؤمنات، والمفهوم المخالف لها أن النكاح من غير المؤمنات لا يجوز. وهذا المفهوم غير مراد هنا؛ لأن الوصف في الآية خرج مخرج الغالب؛ لأن المسلم عادة لا يقصد إلا إلى نكاح امرأة عفيفة.
قوله تعالى: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة} (النور:23)، في الآية وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات، خرج مخرج الغالب؛ ووجه ذلك أن أمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة، ولا سيما التي كانت سبب نزول هذه الآية، وهي عائشة بنت الصديق، رضي الله عنهما. وقد أجمع العلماء على أن من سبها ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذُكر في هذه الآية، فإنه كافر؛ لأنه معاند للقرآن.
ونحو هذا الآية قوله تعالى: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} (الأحزاب:49). فقوله {المؤمنات} خرج مخرج الغالب؛ إذ لا فرق في الحكم بين المؤمنة والكتابية في ذلك بالاتفاق.
قوله سبحانه: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا} (النور:33). قوله سبحانه: {إن أردن تحصنا} الشرط خرج مخرج الغالب؛ لأن إرادة التحصن هي غالب أحوال الإماء البغايا المؤمنات؛ إذ كن يحببن التعفف. والغالب أن الإكراه لا يكون إلا عند إرادة التحصن، فلا يلزم منه جواز الإكراه عند عدم إرادة التحصن. وقوله تعالى في الآية نفسها: {لتبتغوا عرض الحياة الدنيا}، هذا التعليل أيضاً خارج مخرج الغالب، والمعنى: أن عرض الحياة الدنيا هو الذي كان يحملهم على إكراه الإماء على البغاء في الغالب؛ لأن إكراه الرجل لأمته على البغاء لا فائدة له أصلاً، فلا يدل هذا التعليل على أنه يجوز له أن يكرهها، إذا لم يكن مبتغياً بإكراهها عرض الحياة الدنيا.
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها} (النساء:19)، الخطاب في الآية للأولياء، نهوا أن يرثوا النساء المخلفات عن الموتى كما يورث المال. والمراد نفي وراثة النساء في حال الطوع والكراهة، لا جوازها في حال الطوع استدلالاً بالمفهوم المخالف للآية؛ وذلك أن الآية خرجت مخرج الغالب؛ لأن غالب أحوال النساء في عصر نزول الوحي أن يكن مجبورات على ذلك، إذ كان أولياء الميت أحق بها من أولياء نفسها.
قوله سبحانه: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} (البقرة:178)، المشعر من الآية أن الأنثى لا تُقتل بالرجل، مع إجماع المسلمين على أن المرأة يقتص منها للرجل. والظاهر -كما قال ابن عاشور- أن القيد خرج مخرج الغالب، فإن الجاري في العرف أن الأنثى لا تَقتل إلا أنثى، إذ ليس في الغالب والعادة أن يتقاتل الرجال والنساء، فذكر {بالأنثى} اعتباراً لما هو غالب.
قوله تعالى: {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة} (البقرة:283)، الآية دالة بمنطوقها على مشروعية الرهن في السفر. والمفهوم المخالف لهذا المنطوق أن الرهن غير مشروع في الحضر، غير أن الأمر ليس كذلك؛ لأن تعليق مشروعية الرهن في الآية على حال السفر ليس تعليقاً بمعنى التقييد، بل هو تعليق بمعنى الفَرَض والتقدير، إذا لم يوجد الشاهد في السفر، فلا مفهوم للشرط؛ لوروده مورد بيان حالة خاصة، لا للاحتراز، ولا تعتبر مفاهيم القيود إلا إذا سيقت مساق الاحتراز؛ ولذا لم يعتدوا بها إذا خرجت مخرج الغالب.
قوله سبحانه: {ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار} (يونس:45)، هذا وصف خرج مخرج الغالب؛ لأن {النهار} هو الزمن الذي تستحضره الأذهان في العادة والغالب، مثل ذكر لفظ (الرجل) في الإخبار عن أحوال الإنسان، كقوله تعالى: {وعلى الأعراف رجال} (الأعراف:46).
قوله سبحانه: {يوم ينظر المرء ما قدمت يداه} (النبأ:40) (المرء): اسم للرجل، وهو مؤنث امرأة .والاقتصار على {المرء} جَريٌ على غالب استعمال العرب في كلامهم، فالكلام خرج مخرج الغالب في التخاطب؛ لأن المرأة كانت بمعزل عن المشاركة في شؤون ما كان خارج البيت. والمراد: ينظر الإنسان من ذكر أو أنثى، ما قدمت يداه، وهذا يُعلم من استقراء الشريعة الدال على عموم التكاليف للرجال والنساء، إلا ما خُص منها بأحد الصنفين؛ لأن الرجل هو المستحْضَر في أذهان المتخاطبين عند التخاطب.
وبهذه الأمثلة ونحوها يُعلم أن اعتبار العادة ومراعاة الغالب في الاستعمال في أثناء نزول الوحي منهج معتبر في تفسير الآيات الكريمة، فينبغي لمن يريد أن يؤسس لأحكام الشرع أن يكون مستحضراً لهذا المنهج، فضلاً عن أن المفسر للقرآن أحوج ما يكون للأخذ بهذا المنهج وهو يفسر كتاب الله.