من المعروف في الفيزياء أن الشيء إذا تُرك وشأنه فإنه يُصاب بالتحلل الذاتي؛ وذلك لأن استمرار الشيء في أداء وظائفه ودوره واستمراره في الوجود يحتاج إلى شيء من الصيانة المستمرة، وإنما يحتاج إلى الصيانة لأن صفاته الذاتية المكونة له تفقد قدرتها على التماسك والبقاء بحكم الطبيعة التي فطرها عليها الخالق عز وجل، أضف إلى هذا العوامل الموجودة في المحيط، كعوامل التعرية- مثلاً- فالصخر يتغير شكله مع الأيام، وربما يتفتت بسبب ما يتعرض له من المطر والشمس والريح.. وفي المجال الإنساني يحدث مثل ذلك أيضاً، إذا ما دام كل شيء من حولنا يؤثر على نحو ما فينا، وهو أيضاً يتغير، فلا بد في النهاية من أن نتأثر به، ونتغير وفق نوعية تأثيره، وهذه بعض الأمثلة.
أ. شاب ذكي وألمعي تخرّج في الجامعة، وانخرط في العمل في وظيفة من الوظائف، وكفَّ عن تزويد عقله بالمعارف الجديدة والمستجدة في تخصصه الذي درسه، ما المتوقع في شأن معارفه القديمة في ذلك التخصص؟
المتوقع هو أنه بعد عشرين سنة من التخرج ستكون تلك المعارف قد أُصيبت –في جزء كبير منها- بالبلى والتقادم. أرقام كثيرة تتغير بفعل البحث المستمر، ملاحظات عديدة حول ذلك التخصص تتعلق بنشأته وتاريخه وعلاقته بالتخصصات الأخرى، كما أن بعض القوانين والمسلَّمات القديمة تصبح مع الأيام موضع تساؤل، أضف إلى هذا الموقف العام من ذلك التخصص؛ فقد يكون التخصص موضع تقدير من المجتمع، ثم يخسر تلك المكانة، ويحل محله تخصص آخر، كما حدث للطب العام؛ إذ إن من يحمل درجة البكالوريوس اليوم في إدارة الأعمال قد يتقاضى مرتباً يزيد مرتين على مرتب من يحمل شهادة (البكالوريوس) في الطب، وهكذا.. وسيجد ذلك الخرّيج نفسه بعد تلك المدة المتطاولة من الإعراض عن متابعة تخصصه –يتحدث في الهيكل العام للتخصص وفي عمومياته، وسيجد من يقول له من الخريجين الجدد بالفم الملآن: هذا كان في زمانكم، أما الآن فقد اختلف كل شيء!
ب. تقوم مجموعة من الناس بتشكيل جماعة دعوية، وتبذل جهداً كبيراً في إنجاز لوائحها ونظمها الداخلية وفي بيان أهدافها وتطلّعاتها، وبعد عشرين سنة أو ثلاثين يُصاب كل ذلك بالتحلل الذاتي، ويفقد الكثير من ألقه وإثارته، وربما الكثير من صوابه وملاءمته للواقع الجديد، وذلك لأن أي جماعة حين تنطلق تؤسس خططها الدعوية على ما لديها من إدراك لواجباتها وللواقع الذي تعيش فيه، وأيضاً لما لديها من إمكانات وتوقّعات وطموحات، كما أنها تنظر لكل ذلك في إطار وعيها بالمشكلات والعقبات التي يمكن أن تواجهها في المستقبل.. لا ريب في أن وعيها لكل ذلك هو وعي جزئي؛ لأنه يقوم على رؤية أجزاء من الحقيقة؛ إذ لا يتمكن البشر في هذه الأمور من رؤية الحقيقة كاملة لعدد من الأسباب، كما أن كثيراً من المعطيات التي كانت موجودة وقت تأسيس الجماعة يطرأ عليها نوع من التطوّر، وبعد ثلاثين سنة من تأسيس الجماعة يشعر أفرادها أو النابهون منهم بأن أوضاع الجماعة ليست على ما يُرام، وأن عليها أن تجدد في كل أبنيتها الداخلية حتى تنسجم مع المعطيات الجديدة، وأحياناً قد تُحرم الجماعة من الأعداد الكافية من المتميزين، فلا ينتبه أحد إلى الحقيقة القائلة: إن ما نظرنا له في الماضي هو ظنيّ الصواب، وإن التغيرات التي حدثت خلال تلك المدة الطويلة توجب تنظيراً جديداً، وإلاً فقدت الجماعة الكثير من فاعليتها وتأثيرها، وأحياناً قد تفقد حتى مبرّر وجودها.
والنتيجة هي ارتباك كبير في فهم أسباب ما يحدث لها، ولم تدرِ أن كثيراً من معاناتها يعود إلى القصور والتحلل الذاتي الذي أصابها بسبب تقاعسها عن التطوير المطلوب. في بعض الأحيان ينادي بعض الأعضاء بالتطوير لكن لا يفلحون؛ لأن قسماً من المتنفّذين في الجماعة صاروا يقدِّسون قديمها، ويريدون له أن يستمر على أي حال، ومهما كانت النتائج، وبذلك تتحول الوسيلة إلى غاية، ويعطى الإذن للفوضى وانعدام الفاعلية بالاستمرار!
قليلة جداً تلك الأشياء التي يمكن أن تستمر في كل الأزمنة والأمكنة دون صياغة ودون تجديد وتطوير، لكن الناس يخافون من ذلك، وكأنهم يقومون بقفزة في الهواء! وسوف يمتلكون الجرأة عليه حين يكتشفون أن الجمود هو نوع من الموت المحقق.