تكررت في القرآن الكريم آيات كثيرة في أكثر من موضع، مع فروق لفظية بسيطة بينها، كاستبدال حرف بآخر، أو إثبات حرف في آية وحذفه من أخرى، أو تقديم لكلمة في آية وتأخير لأخرى في غيرها، ونحو ذلك من الفروق التي تحمل دلالة ما، أو معنى لطيفاً يقتضيه هذا النص القرآني أو ذاك.
نسعى في السطور التالية للوقوف على بعض الأمثلة التي تضيء هذه الظاهرة القرآنية، ونحاول من خلالها أن نتلمس بعض اللطائف في تلك الفروق.
ولن يتمنوه...ولا يتمنونه
في حديث القرآن عن اليهود ومواقفهم نقرأ قوله تعالى: {قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين * ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين} (البقرة:94-95). ونقرأ كذلك قوله سبحانه: {قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين * ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين} (الجمعة:7). فآية البقرة جاءت مصدَّرة بحرف النفي (لن)؛ في حين أن آية الجمعة جاءت مصدَّرة بحرف النفي (لا).
للمفسرين في توجيه هذا الفرق بين الآيتين قولان:
أحدهما: أن الأمر لا يعدو أن يكون من باب التفنن في الأسلوب، على عادة العرب، في تعدد الأساليب للتعبير عن الشيء نفسه. وهذا ما عليه الأكثر في توجيه الفرق بين الآيتين الكريمتين. ودليلهم على ذلك أن كلاً من (لا) و(لن) لنفي المستقبل من غير تأكيد.
ثانيهما: أن (لن) مع إفادتها النفي فإنها تفيد التأكيد أيضاً، بخلاف (لا)، فإنها لا تفيد إلا النفي فحسب. وتوجيه الآيتين بحسب هذا الرأي، أن اليهود في الآية الأولى، ادعوا أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس، وادعوا في الآية الثانية أنهم أولياء لله من دون الناس، والله تعالى أبطل هذين الادعاءين، بأنه لو كان كذلك لوجب أن يتمنوا الموت.
والدعوى الأولى أعظم من الثانية؛ إذ السعادة القصوى هي الحصول في دار الثواب، أما مرتبة الولاية فهي وإن كانت شريفة إلا أنها إنما تراد ليُتوسل بها إلى الجنة؛ فلما كانت الدعوة الأولى أعظم، لا جرم بيَّن سبحانه فساد قولهم بلفظ: (لن)؛ لأنه أقوى الألفاظ النافية والمؤكدة، ولما كانت الدعوى الثانية ليست في غاية العظمة، اكتفى في إبطالها بلفظ: (لا)؛ لأنه ليس في نهاية القوة في إفادة معنى النفي.
قال الزمخشري: "ولا فرق بين (لا) و(لن) في أن كل واحدة منهما نفي للمستقبل، إلا أن في (لن) تأكيداً وتشديداً ليس في (لا)، فأتى مرّة بلفظ التأكيد، ومرّة بغير لفظه".
فأعرض عنها...ثم أعرض عنها
في سياق التحذير من الإعراض عن آيات الله وما نزل من الحق، نقرأ قوله تعالى: {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها} (الكهف:57)، ونقرأ أيضاً قوله عز وجل: {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها} (السجدة:22). حيث جاء الفعل (أعرض) في الآية الأولى مقروناً بحرف (الفاء)، مرتباً على التذكير وعقيباً له؛ في حين أنه جاء في الآية الثانية معطوفاً بالحرف (ثم)، متراخياً عن فعل التذكير.
وقد سكت أكثر المفسرين عن ذكر فرق بين الآيتين، وهذا له دلالة كما لا يخفى. ووجَّه الزمخشري - وتابعه أبو حيان والآلوسي - الحرف (ثم) في آية السجدة بما لا يُسعف سياق الآية بالقول به.
أما ابن عاشور فقد قال في توجيه قوله سبحانه: {ثم أعرض عنها}: جيء بحرف (ثم)؛ للدلالة على تراخي رتبة الإعراض عن الآيات بعد التذكير بها، تراخي استبعاد وتعجيب من حالهم.
واستأنس لهذا التوجيه بقول الشاعر:
لا يكشف الغُمَّاء إلا ابنُ حُرَّة يرى غمرات الموت ثم يزورها
أي: عجيب إقدامه على مواقع الهلاك بعد مشاهدة غمرات الموت تغمر الذين أقدموا على تلك المواقع.
والمراد: أن الذي ذُكِّر بآيات ربه لم يُعْرِض عنها حال التذكير بها، وإنما حصل الإعراض منه بعد تمهل وتأمل ومعاينة لِعِظَم تلك الآيات، ما يستدعي التعجب من حاله المعاندة والمعرِضة عن الحق على الرغم من ظهور دلالته غاية الظهور.
بعد الذي جاءك...من بعد ما جاءك
في خطاب القرآن للنبي صلى الله عليه وسلم نقرأ قوله تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير} (البقرة:120). ونقرأ أيضاً قوله سبحانه: {وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين} (البقرة:145). والفرق بين الآيتين هنا أن أولاهما جاء اسم الموصول فيها (الذي)، في حين أن ثانيهما جاء اسم الموصول جاء فيها (ما)، فما وجه الفرق بين الآيتين؟
قال بعض أهل التفسير: إن (الذي) تتضمن من البيان ما لا تتضمنه (ما)، فتأتي صفة لاسم الإشارة، كما في قوله تعالى: {أم من هذا الذي هو جند لكم} (الملك:20)، وتأتي مقترنة بعلامات التثنية والجمع والتأنيث وأل التعريف، خلافاً لـ (ما) التي تلزم صورة واحدة، وتأتي مبهمة.
وعلى هذا، فإن الآية الأولى {بعد الذي جاءك من العلم}، لا يليق بها إلا اسم الموصول (الذي)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مُنع من اتباع اليهود والنصارى، بالعلم الذي حصل له بصحة الإيمان وبطلان الكفر، واسم الموصول (الذي) وقع في هذا الموضع على العلم الذي ثبت به الإسلام، وهو الهدى النافع، الذي منع من الكفر، وعُبِّر عنه بأعرف الاسمين المبهمين وهو (الذي)؛ أما العلم الذي سُبق بـ (ما) {من بعد ما جاءك من العلم}، فالقصد منه النهي عن اتباع أهوائهم في أمر القبلة، ووجوب مخالفتهم فيه، وهو بعض الشرع لا كله، والعلم به بعض العلم بالشرع، فعُبِّر باللفظ الأقصر (ما)، وعُبِّر عن العلم المحيط بالشرع باللفظ الأشهر (الذي).
ولا بد أن نشير ختاماً إلى أن هذه التوجيهات لتلك الفروق قابلة للأخذ والرد، وهي في المحصلة لا تخرج عن كونها مجرد اجتهادات تفسيرية، ويبقى الأصل قبل ذلك وبعده قوله سبحانه: {قل إنما علمها عند الله} (الأعراف:187).