تصريح أولمرت يوم 15/9/2008 في مجلس الوزراء حول استحالة تحقيق حلم الدولة الصهيونية الكبرى من البحر إلى النهر يتطلب وقفة بالتأمل والتحليل.
فالقراءة العربية للصراع العربي الإسرائيلي سارت في اتجاهين:
الأول:يرى أن المشروع الصهيوني يتقدم بسرعة على أرض فلسطين، وهى الساحة الأولى ومنطلق هذا المشروع، وأنه يحصد أرواح الفلسطينيين ويدفنهم في أماكنهم وتساعده واشنطن وتتواطأ معه أوربا الرسمية وتسكت عنه الحكومات العربية.
كان طبيعيا في ظل هذه الصورة أن يحدث رد فعل إنساني ـ خاصة في ظل تردى الأوضاع الإنسانية في غزة ـ كما استدعت هذه الآثار اندفاع الكثيرين من الأوروبيين وحتى الإسرائيليين للتعاطف مع شعب غزة الذي يوشك أن يموت في مقبرة جماعية وفق تقارير الأمم المتحدة، ولكن ذلك كله لا يؤثر على نجاح المشروع الصهيوني الذي ضمن الدعم الأعمى من واشنطن والسكوت المريب للدول العربية.
الاتجاه الثاني: يرى أنه، وإن كان المشروع الصهيوني يتقدم على أرض فلسطين، إلا أنه يلقى ضربات استراتيجية على المستوى العالمي والإقليمي، خاصة آثار العدوان على لبنان عام 2006 التي يقدر المراقبون أن آثارها على المدى البعيد لم تظهر بعد وأن الانهيارات النفسية والسياسية داخل إسرائيل في علاقاتها الغربية هي أهم الآثار الفورية للفشل الإسرائيلي، والاتجاه البطيء داخل الولايات المتحدة لمراجعة ملفات كثيرة، خاصة ملف السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط والعلاقات مع إسرائيل.
وقد كشفت كل هذه التداعيات عن أزمة زعامة داخل إسرائيل بعد اختفاء شارون آخر الزعماء التاريخيين لإسرائيل، كما كشفت عن عدم نضج القرارات الإسرائيلية.. بل رأينا شخصيات متهورة مثل تسيبى ليفنى الطامحة إلى زعامة حزب كاديما، وهى ذات الخلفية الاستخبارية الطاغية، تثير المشاكل مع مصر أهم حلفاء إسرائيل وتغضب الرئيس مبارك شخصياً، ثم تصف اليهود من أوربا الشرقية بأنهم رعاع، وتتحدى بجرأة فريدة إيهود أولمرت.
وسط هذا الركام وبينما العالم كله يتحسب لهجوم إسرائيل على إيران، وأثر تورط إسرائيل في الصراع الروسي الأمريكي في القوقاز وتداعياته في الأزمة المتصاعدة بين روسيا والغرب والانكسارات الأمريكية الغربية المتلاحقة، وأثر ذلك على الاستعطاف الأوروبي الأمريكي لإسرائيل لكي تقدم شيئاً في عملية أوهام السلام، فاجأ أولمرت رئيس وزراء إسرائيل أعضاء وزراته يوم 15/9/2008 بالإعلان أنه وكل زعماء إسرائيل أخطؤوا فى تصور أن إسرائيل الكبرى من البحر المتوسط إلى نهر الأردن دون الفلسطينيين وهم كبير، خاصة وأن أوربا بدأت تناقش فكرة الدولة الواحدة لشعبين مادام الأمل في دولتين قد أعاقته إسرائيل، وفى ذلك خطر كبير على إسرائيل وقال: "منذ 40 عاماً نبتدع الحجج والذرائع لتبرير سياستنا في التقاعس عن القيام بأية خطوة للسلام مع الفلسطينيين على أساس دولتين للشعبين. أنا أيضاً كنت أعتقد بأن الأرض الواقعة ما بين البحر والنهر هي ملك لنا نحن اليهود وحدنا. كنا نحفر في الأرض ونجد الآثار اليهودية في باطنها في كل مكان، ونعتقد بأننا أصحاب الحق التاريخي وحسب، ولكن في نهاية المطاف وبعد الكثير من العناء والتردد توصلت إلى القناعة بأن علينا أن نتقاسم الأرض مع من فيها. لا نريد دولة واحدة لشعبين".
وأكد أولمرت أن حل الدولتين لن يزيل الخطر ولكنه سيجذب الأغلبية من الفلسطينيين معنا ضد الأقلية المتطرفة.
هل معنى ذلك أن تقييم أولمرت لأثر كل هذه التطورات هو أن قوة إسرائيل التي لا تبارى لم تستطع أن تضمن لها تنفيذ مشروعها الصهيوني واستبعاد الفلسطينيين؟ وإذا كان ذلك هو رأى أولمرت، وهو يوشك أن يودع الحياة السياسية بصفته مدنياً من تلاميذ شارون، فهل هو أيضاً رأى النخبة السياسية الإسرائيلية ومن بينهم خليفة أولمرت المتوقع في الانتخابات؟
الراجح لدينا أن تقييم أولمرت هو كلمة الوداع والوصية السياسية لأول رئيس لوزراء إسرائيل بهذا المعنى، وهذا الموقف يقابل موقف "بن جوريون" الذى كتب في مذكراته أنه لا يتوقع قهر العرب أو جذبهم إلى المشروع الصهيوني، ولابد أن المشروع سيجد مقاومة وعناداً من الجانب العربي.
ولاشك أن إسرائيل نجحت فعلاً في فصل العالم العربي الرسمي عن المقاومات العربية وكلها ضد إسرائيل حتى تلك التي تحارب الاحتلال الأمريكي في العراق، ففي ظل الاحتلال انتعشت الخطط الإسرائيلية في العراق حتى حذر المراقبون من أن تعترف حكومة بغداد قريباً بإسرائيل، كما كان لإسرائيل دور في الغزو، وفى المنطقة الكردية، كما أن أحد أعضاء مجلس النواب الذي رفعت حصانته بسبب زيارته لإسرائيل يعبر بوضوح عن حالة عامة في السلطة العراقية.
الراجح أيضاً أن أولمرت كان أميناً مع نفسه، وأنه لولا أن رأيه قد لا يشاطره فيه بقية النخبة السياسية في إسرائيل، إلا أنه أولى محطات إعاقة المشروع الصهيوني. ولكن يجب الالتفات إلى أن تصريح أولمرت المذهل للجميع صدر في وقت أكد فيه أولمرت أنه يريد أن يسرع بتسوية سياسية مع الفلسطينيين مع كل اللاءات الإسرائيلية لتسويق الحل الإسرائيلي، ولذلك كان يتعين على الفلسطينيين أن يدركوا أن التصريح يوجب تريث الجانب الفلسطيني وألا يندفع إلى تسوية تحيطها الشكوك حتى لا يتحول التصريح من اعتراف بالضعف إلى حيلة لتسجيل تسوية تكفل لأولمرت خروجاً ونهاية مشرفة ومكاناً معقولاً في المجد الصهيوني.
ولو أجمع الساسة في إسرائيل على مقولة أولمرت، فإن النتيجة المباشرة هي تحديد حجم إسرائيل في فلسطين، وتدخل الدول العربية لإنشاء الدولة الفلسطينية، لأن تصريح أولمرت لا يمكن أن يكون تبرعاً من إسرائيل في الوقت الذي تبدو فيه لإسرائيل القول الفصل عند الحكومات العربية في الكثير من الملفات.
الخلاصة، يعبر أولمرت عن حقيقة تتأكد كل يوم وهى أن المشروع الصهيوني القائم على القوة والإبادة قد اهتزت أركانه، وأن مراجعته أصبحت أمراً حتمياً، ولكن هل تستسلم إسرائيل لهذا الموقف الرومانسي أم أن أزمة المشروع قد ظهرت وأن المقاومة يجب أن تفخر بما حققت وأن المشروع الصهيوني قد تغيرت حظوظه؟.
الثابت أن التصريح بالغ الأهمية على الأقل في تسجيل المحطات التي يتهاوى فيها المشروع الصهيوني، وتلك أهمية تاريخية يجب الالتفات إليها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* سفير مصري سابق